الأشعري(2): العثماني ربح منصبه وخسر لسانه

أحمد مدياني

في الجزء الثاني من الحوار الطويل مع محمد الأشعري، يتحدث وزير الثقافة السابق، عن حكومة العثماني الحالية، ويقول إنها مريضة وترفض دخول غرفة الإنعاش، وأن رئيسها ربح منصبه وخسر لسانه، لكن الأشعري لايكيل بمكيالين، فهو يقدم تشخيصا لأوضاع الاتحاد لا يقل جرأة.

*كيف تابعت المؤتمر الأخير للاتحاد والذي دخله المشاركون لتزكية مرشح وحيد على الكتابة الأولى بدون منافسة ولا نقاش

لم تكن لدي أوهام. كنت متأكداً أن الأمور سوف تسير نحو هذا الاتجاه. كثير من الأصدقاء يلومونني لأنني قلت بعد مغادرة الاتحاد إن الحزب الذي أعرفه قد مات. لم أكن متحاملا على الحزب حسب ما أظهرته نتائج الخيار الذي فرض داخله، والدورة الطبيعية لحزب ما، بنى نفسه على فكرة مقاومة الاستبداد وبناء دولة الديمقراطية، قد انتهت بعد الانخراط في دورة أخرى لا علاقة لها بهذه المبادئ. علينا أن نطرح السؤال عن أصل قوة الحزب، وهو: لماذا كان ينتج أفكاراً ومواقف ينتظرها الناس؟ الجواب: لأنه كان موحداً حول قيادة لها مصداقية ومصدر ثقة عند فئة واسعة من المغاربة.ولأنه كان يملك رؤية للمستقبل.

من يتباكون اليوم على حزب الاتحاد الاشتراكي، ويقولون إنه لم يعد فاعلاً في المجتمع، مارسوا نوعاً من قتل المصداقية التي كان يتمتع بها عبر ممارساتهم. وأمام  هذا الوضع، أنا مؤمن بأن مشروع الحزب سوف يعود، لكن بالطبع ليس على يد هؤلاء، بل عبر طاقات شابة يمكن أن تغير الأوضاع داخله أو من خلال تنظيم آخر يحمل نفس الفكرة، تيار قوي سوف يبزغ من المجتمع، ينهل من فكرة الشهيد عمر بن جلون، الذي قال خلال المؤتمر الوطني الاستثنائي للحزب عام 1975، إن "الاتحاد هو استمرار لحركة التحرير الشعبية بالمغرب". ورغم ما قلته عن موت الاتحاد، بقيت مؤمناً بفكرة مقاومة الاستبداد وبناء ديمقراطية حقيقية، كما أشدد على أن الأسس التي بني عليها الحزب سوف تبقى حية ولا يمكن دفنها بأي حال من الأحوال وإن عاد، لن يكون على يد من يتعاملون معه كأصل تجاري فقط.

*ألا تتحمل جزء من المسؤولية بدورك رفقة عدد من قيادات الاتحاد في ما وصلت إليه الأوضاع داخل الحزب؟

بكل تأكيد هناك أخطاء ارتكبناها جميعاً، لكن بعضنا أكثر من البعض الآخر. كنت ألح دائماً على القيام بوقفة تحليلية نقدية لمسار الحزب وتجربته قبل المؤتمر ما قبل الأخير، ولكن للأسف لم نتوصل إلى ذلك. الآن، هناك عدد من الأصدقاء في الاتحاد، يلوموننا وأنا شخصياً على ترك الساحة، ويرون أن غيابنا ساهم في انتصار المجوعة التي تقود الحزب اليوم ولا أحصرها في شخص واحد. الواقع الذي يجب أن يعرفه الناس، هو أن هناك آلة جهنمية بنيت داخل الاتحاد من طرف هؤلاء، عملت على نوع من التطهير المنهجي بحيث لم تترك أي مجال للتعايش بينها وبين من يخالفونها الرأي أو المزعجين إن صح القول.

عندما كنت داخل المكتب السياسي، ولا بد أن أذكر هذه النازلة. دافعت عن الأفكار التي تحدث عنها قبل قليل، وقتها كان الأستاذ عبد الواحد الراضي هو الكاتب الأول للاتحاد، وكان الأخير يحاول أن يمسك العصا من الوسط وتقريب وجهات النظر، لكن عندما قلنا له إننا لا يمكن أن نستمر في حضور أشغال المكتب السياسي، إذا كنا نصل إلى بعض القرارات ثم بعد ذلك وبدعوى ضرورة إيجاد توافق يتم التراجع عنها.

*يعني كانت تتخذ قرارات داخل المكتب السياسي ومواقف وبعد إقرارها تتغير؟ !

نعم. منها أشياء داخلية، وأذكر هنا ما يهم الإعلام الحزبي كمثال، ومنها أشياء سياسية وطنية، طالت حتى مقترحات الاتحاد خلال مشاورات تعديل دستور 2011 ومقترحاته في مجال الجهوية. كان عبد الواحد الراضي، يستلهم من الحياة العسكرية وصف "Des déserteurs" (الفارون من الخدمة العسكرية)، ونحن نعرف في حياة العسكرية عقوبتهم. ربما الراضي لم يقل ذلك وهو يعني بالضبط الدلالة العسكرية للكلمة، ولكن سُقت هذا المثال لأقول إن الكثير من الناس بمن فيهم الكاتب الأول حينها، اعتبروا أن المواجهة داخل الحزب يمكن أن تعدل الأمور أو تصل بنا إلى توافق يمكن أن يوقف النزيف الذي عصف بالاتحاد الاشتراكي.

في الواقع، الكل كان يعرف ماذا يحدث، وأن المؤتمر حُضر بطريقة سوف يتنافس فيها من يتوفرون على جيشهم الخاص داخله، ويعرفون أنه إن ذهبت لن يكون لي أي حظ في أن أتحمل مسؤولية ما بناء على نتيجة انتخابية، بل ستكون ممكنة فقط بناء على رضوخ لأحد الأباطرة، وتجاهل هذا الوضع أعتبره جريمة في حق الحزب، والذهاب إليه ونحن نعرف مصير المؤتمر مع القول إن المواجهة الداخلية ممكنة، مغالطة كانت خطيرة جدا، ولا أغفرها أخلاقياً لمن ارتكبها.

عندما ترشح فتح الله ولعلو في المؤتمر ما قبل الأخير، قلت له، إنك تقدم نفسك لقمة سائغة للآخرين، ودعوته لعقد ندوة صحافية نعلن فيها أننا نطالب بتأجيل المؤتمر حتى الاتفاق على خارطته التنظيمية، كما طالبت بإنشاء لجنة وطنية للعضوية لنعرف من هم أعضاء الحزب الحقيقيون الذين سوف يشاركون في أشغال المؤتمر، لكن فتح الله ولعلو الذي كان دائما شرعياً ولا يؤمن بغير ذلك، أغمض عينيه عن ما يعرفه حقيقة وذهب وترشح للكتابة الأولى، والحيثية الوحيدة التي كان فيها على حق، هي أنه فعل ذلك حتى لا يترك عدداً كبيراً من المناضلين الأوفياء فريسة للتقاسم الانتخابي الذي كان سائداً داخل المؤتمر.

البلاد في حالة توقف، في سياق دولي لا يمكن لأي بلد أن يسمح لنفسه بالتوقف، لأنه لن يتوقف فقط بل سيتأخر ، وسيفقد الشيء الكثير.

*هل توجد مبادرات بين أطر الاتحاد الاشتراكي الغاضبة أو المنسحبة عمليا منه لتصحيح كل ما تحدثت عنه؟

أنا شخصياً لست في أية مبادرة واخترت منذ انسحبت من الحزب أن أتفرغ للعمل الثقافي أساساً، لم يتصل بي أي طرف. قناعتي اليوم، أن المغرب في حاجة لقوة جديدة، يسارية، عندها علاقة بالتراث النضالي للاتحاد ومتوجهة نحو المستقبل. وإذا كانت هناك مبادرات في هذا الشأن سوف أساندها أخلاقيا ونضاليا دون أن أكون ممارساً سياسياً من جديد. أما المحاولات التي تعتمد على الترقيع والعودة إلى أساليب الماضي فلا شيء ينتظر منها.

* من وجهة نظرك، الأغلبية الحكومية الحالية تعبير حقيقي عن نتائج انتخابات 7 أكتوبر؟

بدون أن أربط الأمر بانتخابات 7 أكتوبر، ما ألاحظه أن لا أحد يأخذ محمل الجد هذه الحكومة، وهذا خلل خطير. الأحزاب المشكلة لهذه الحكومة كانت في صلب الخطاب الملكي لعيد العرش، ويجري عليها التشخيص الذي وضعه للآليات السياسية التي تقوم عليها ديمقراطية البلاد.

ما لاحظته، أن هذه الأغلبية لم تهتز كثيراً على وقع ذلك الخطاب، ولم تعقد مؤتمرات ولم تعكف على مناقشة هذا التشخيص الذي صدر عن أعلى سلطة في هذه البلاد. استمرت الأمور كما لو أن التشخيص الذي صدر عن الملك مجرد ممارسة فكرية، أما الواقع يستمر في طريقه العادية وكأن شيء لم يقع.

الأغلبية لم تهتز كثيراً على وقع خطاب الملك ولم تعقد مؤتمرات ولم تعكف على مناقشة هذا التشخيص الذي صدر عن أعلى سلطة في هذه البلاد.

*يعني يمكن أن نذهب حد القول إننا أمام حكومة تصريف أعمال عوض حكومة سياسية

لا أريد أن أسميها أي تسمية. في نظري الأمر يشبه مريضاً شخص من طرف الجميع أنه في أقصى درجات الخطورة مما هو مصاب به، لكنه مستمر في عيش حياته بشكل عادي، يرفض دخول غرفة الإنعاش ولا يأخذ أي وصفة علاجية لمرضه.

الخمس سنوات الأخيرة من حكومة عبد الإله بنكيران كان فيها الأخير منشطاً أساسيا للساحة السياسية، بتمريناته الخطابية ومواقفه التي تلعب على حبلين، حبل الحكومة من الاثنين إلى الجمعة، وحبل الحزب  خلال عطلة نهاية الأسبوع، يعني خمس سنوات بيضاء من الناحية السياسية والاقتصادية. لم يُفعل دستور 2011 ولم تنجز الإصلاحات الأساسية في البلاد كما لم يستفد المغرب من مناخ جهوي ودولي كان يمكن أن يكون في صالحه من الناحية الاقتصادية، وانتهت تلك الفترة والبلاد في وضعية عطب حقيقي. وأبرز تجلي لما عاشه المغرب خلال تلك المرحلة هو المدرسة المغربية وواقع التعليم في بلادنا.

الآن دخلنا في خمس سنوات أخرى، أراها نسخة مكررة، هذه المرة برئيس حكومة ربح منصبه وخسر لسانه. بالنسبة لي، الفرق بين الحكومة الحالية والسابقة، هو أننا لا نتوفر على منشط سياسي يستطيع أن يخلق نوعاً من الفرجة الإعلامية.

وبناء على ما سبق، أرى أن المغرب سوف يعيش عقداً كاملا من الزمن في وضعية جمود، وإذا أضفنا إليها سنوات سابقة مشابهة تقريباً، نخلص إلى أن البلاد في حالة توقف، في سياق دولي لا يمكن لأي بلد أن يسمح لنفسه بالتوقف، لأنه لن يتوقف فقط بل سيتأخر ، وسيفقد الشيء الكثير.

انطلاقاً من تحليلك وحديثك عن سياقات الأزمة التي يعيشها المغرب. ألا ترى أن الأحزاب لا تتحمل وحدها المسؤولية، بل للدولة كذلك نصيبها منها؟

أشرت في حديثي السابق أن السياق السياسي العام بدوره يتحمل المسؤولية تجاه توقيف الاصلاحات أو تحجيمها والتدخل في الخريطة الحزبية إلى غير ذلك... هذه العوامل كانت لها آثار وخيمة على المغرب. وأنا لا أحمل فقط المسؤولية للأحزاب، بل أحملها للوضع السياسي ككل.

لكن هناك نقطة أعتبرها أساسية، وهي أن المشكل في المغرب، هو أننا نتصور بعد تجربة طويلة في التفاوض السياسي، أن لا شيء يمكن أن يتحقق خارج التوافقات، واستمعت عدة مرات لمسؤولين سياسيين يقولون إن لا شيء يمكن أن نحققه في المغرب دون توافق مع المؤسسة الملكية، وصدر هذا الموقف عن قادة سياسيين حتى من اليسار ومنهم قادة تاريخيون للاتحاد، ويرددون ذلك باستمرار. أي لا يمكن أن ننجز شيئاً من الإصلاحات السياسية والتقدم الاقتصادي والمراجعات الدستورية، دون توافق مع الملك. هذا الاختيار جيد، إذا كان دفاعاً عن نوع من الاستقرار والشرعية، وعن أسلوب تفاوضي لتقدم الأمور، ولكن عندما تحصل إصلاحات من قبيل ما حمله دستور 2011، لا يمكن أن أقبل بأن يقول لي رئيس حكومة وحزب هو الأول انتخابياً "أنا مجرد موظف عند جلالة الملك"، وهذا القول غير مقبول، لأن واحدة من الالتزامات الأساسية لهذا الحزب هي الدفاع عن الدستور والتنزيل الديمقراطي والسليم له، بل والأخذ بكلام الملك حين قال بالتأويل الديمقراطي للدستور.

لماذا لم يقم رئيس الحكومة بالقطع مع هذه التداخلات وهو يتحمل المسؤولية كاملة في ذلك. لا يمكنه أن يبيع لنا بضاعة مغشوشة بالقول: "كل شيء يجب أن أقوم به بتوافق مع الملك" وفي نفس الوقت يتحدث عن العفاريت والتماسيح التي تمنعه من ممارسة مهامه، ثم بعد ذلك، ولربح الانتخابات يحمل المسؤولية لما وصفه بـ"التحكم".

خلال السنوات الأخيرة، كان يمكن القطع مع آليات التدخل في الحياة السياسية من مدخل دستور 2011 وتنزيله بشكل سليم، لكن حزب العدالة والتنمية ورئيسه ساهما في تركيز "آليات التحكم". أشياء كثيرة كانت من اختصاص رئيس الحكومة ولم يقم بها، وكنت سأدافع عنه لو دافع هو عن اختصاصاته، وقد أظهرت واقعة التعيينات في المناصب العليا، التي كانت أولى معارك تطبيق الدستور، أن بنكيران سوف يقبل بالتنازل عن صلاحياته، ولا أقبل منه أن يقول إن أحدهم استولى عليها رغما عنه.