بقلم: ناجي العماري
إذا كان الجزء الأول من هذه السلسلة قد توقف عند الأسئلة الكبرى التي تطرحها التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عالمنا اليوم، فإن الجزء الثاني يهدف إلى التعمق في هذه الإشكاليات من زاوية التحولات العميقة التي طرأت على مفهوم السلطة والمواطنة، في ظل التحديات الجديدة التي يواجهها العالم والمغرب على وجه الخصوص.
إن دستورنا يُقر بثلاث سلطات رئيسية: التنفيذية، التشريعية، والقضائية، مع إضافة اجتهادية لسلطة رابعة تتمثل في الرأي العام. لكن الواقع يشير إلى أن هناك سللطة خامسة، سلطة المال والنقد، والتي قد أصبحت أكثر تأثيراً على حياتنا اليومية، متجاوزة في قوتها حدود السلطات التقليدية.
هذه السلطة الخامسة ليست مجرد قوة اقتصادية فحسب، بل هي منظومة متشابكة تفرض سيطرتها على الأفراد والدول على حد سواء. فالقرارات الكبرى المتعلقة بالاستثمار، التمويل، وإعادة توزيع الثروات لم تعد محلية خالصة، بل أصبحت مرتبطة بشبكات عالمية من المصالح المالية التي تتحكم في مآلات الاقتصاد والسياسة معاً.
إن تهديد سلطة عالم المال والنقد على الأوطان هو "أخطر من تهديد جيش مسلح غازي" كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق طوماس جيفرسون في إحدى حملاته الانتخابية موجها كلامه إلى البنوك ومن يقف خلفها.
وفي هذا السياق، يبدو أن الدولة، كما قال المخرج الفرنسي جان بول رابينو في كتابه "قراءة فوكو": "تتشكل عبر خلق شيفرات في عدد كبير من علاقات القوة، التي تجعل هيمنتها ممكنة." هذا الاقتباس يُعيدنا إلى جوهر النقاش حول طبيعة السلطة في عالم اليوم؛ فهي لم تعد مجرد بنية رسمية يُحددها الدستور أو القانون، بل أصبحت شبكة معقدة من العلاقات والقوى المتداخلة، التي تتجاوز في تأثيرها حدود المؤسسات التقليدية.
ومع ذلك، فإن التأمل في السلطة لا يتوقف عند أبعادها الاقتصادية أو المؤسساتية فقط. فالتغيرات التي يشهدها العالم تمتد إلى أبعاد ثقافية، بيئية، واجتماعية. نحن اليوم نعيش في عالم مترابط، حيث الأزمات البيئية في قارة ما تؤثر على اقتصادات وسياسات قارات أخرى، وحيث التكنولوجيا تُعيد تشكيل مفهوم السيادة والحدود. فكيف يمكن للمغرب، كدولة وكشعب، أن يواكب هذه التحولات، ويعيد صياغة علاقته بالمواطنة والسلطة؟
المواطنة اليوم لم تعد مجرد علاقة قانونية بين الفرد والدولة، بل أصبحت علاقة تفاعلية بين الفرد ومجتمعه، وبين الفرد والعالم بأسره. وهذا يعني أن التفكير في "أي مواطنة نريد؟" يتطلب منا التفكير في "أي مصير مشترك نرغب في تحقيقه؟"
ولأن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب رؤية أعمق وأشمل، فلا بد من إعادة النظر في مفهوم "السلطة" بحد ذاته. هل السلطة هي مجرد أداة لتنظيم المجتمع، أم أنها مجال مفتوح للإبداع والتغيير؟ وهل يمكن أن نتخيل سلطة أكثر ديمقراطية، أكثر شفافية، وأكثر انفتاحاً على تطلعات المواطنين؟
إننا بحاجة إلى التفكير في السلطة باعتبارها عملية ديناميكية، تتشكل من تفاعل قوى متعددة: الدولة، المجتمع المدني، الأفراد، والبيئة. فالعالم لم يعد مجرد مسرح للقوى التقليدية، بل أصبح مختبراً للأفكار الجديدة التي تسعى لتحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية، بين التنمية والعدالة، وبين الهوية والانفتاح.
ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة لبلادنا، يجب أن تتحول هذه التأملات إلى نقاش وطني مفتوح يشارك فيه الجميع: سياسيون، مفكرون، فنانون، مواطنون عاديون، وحتى الشباب الذين قد يشعرون بالإقصاء من العملية السياسية.
فما نريده من الانتخابات ليس مجرد اختيار ممثلين جدد، بل إعادة تعريف لما يعنيه أن تكون مواطناً في وطن يواجه تحديات العصر. وما نطمح إليه ليس فقط سلطة جديدة، بل رؤية جديدة للمجتمع والإنسانية ككل.
ربما يكون هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم: أن نعيد صياغة أسئلتنا، ليس فقط حول "ماذا نريد؟"، بل أيضاً حول "كيف نحقق ما نريد؟" في عالم يتغير بسرعة تفوق قدرتنا على استيعابه.