مغاربة تحت رحمة الرصاص والمافيات.. ناجون يحكون جحيم الهجرة إلى ليبيا

عدد من المغاربة الذين تم تحريرهم من مركز زوارة
أحمد مدياني

عاد 235 مغربياً من جحيم ليبيا فجر يوم الجمعة 8 أكتوبر. من بين هؤلاء قرابة 120 شاباً ينحدرون من نواحي مدينة بني ملال. "تيل كيل عربي" شد الرحال إلى المدينة وضواحيها، التقى عدداً من الشباب الذين قبلوا  أن يحكوا تجربتهم  المؤلمة في جحيم الاستعباد.

"باعونا مثل العبيد، وأذاقونا التنكيل والضرب طيلة أشهر من الاحتجاز"، هكذا لخص شباب مغاربة، في حديثهم لـ"تيل كيل عربي" عنوان الرحلة من المغرب عبر الجزائر وتونس وصولاً إلى ليبيا. وسردوا كيف احتجزتهم مافيا الاتجار في البشر، وكيف حاصر الجيش مكان إقامتهم حيث كانوا يختبئون في انتظار ركوب أمواج البحر الأبيض المتوسط للهجرة نحو إيطاليا، كما كشفوا هوية "العم" "امبراطور" الهجرة السرية الليبي، الذي وعدهم بـ"الفردوس" ليجدوا أنفسهم تحت رحمة الحديد والنار وأغلال الاستعباد والاحتجاز.

البضاعة...

"أوصلنا البضاعة، معنا البضاعة، أين سوف تتسلم البضاعة..."  تحول الآدميون في عرف الوسطاء إلى بضاعة، ولأنهم صاروا بضاعة فقد بيعوا في سوق النخاسة الجديدة، بـ1000 يورو، قبل أن يحررهم الجيش الليبي من الاحتجاز ويقودهم إلى داخل مركز "زوارة"، قبل أن تعيدهم السلطات المغربية سالمين غير غانمين.

محمد ونبيل وجمال...شباب من منطقة "سوق السبت" (36 كيلومتراً عن مدينة بني ملال)، هاجروا إلى ليبيا شهر يوليوز الماضي، قطعوا الطريق إلى بلاد توجد بها أكثرمن حكومة، طيلة أربعة أيام. كانت المحطة الأولى للرحلة حسب شهادتهم مطار هواري بومدين في الجزائر، ثم شدوا الرحال إلى الحدود الليبية عبر صحراء الجزائر وتونس، طريق حملت لهم الرعب والخوف، "عانقوا" خلالها الموت أكثر من مرة، وذاقوا التنكيل وسمعوا صوت الرصاص، كما أحسوا ببرودة فوهة البنادق الآلية وهي توضع على جباههم.

كان الشبان الثلاثة من بين المحتجزين الـ235، أكبرهم سناً يبلغ الـ50 عاماً وأصغرهم دون سن الـ18. وسيط رحلتهم واحد، مغربي يوجد هناك منذ حوالي 7 أشهر، اسمه عبد العزيز، سافر أول الأمر باحثاً عن قطع المتوسط نحو إيطاليا، ليتحول إلى صلة وصل بين المغاربة الباحثين عن الهجرة، وزعيم مافيا تهريب البشر، ليبي، ولقبه بإجماع كل من استمع الموقع لحكاياتهم "العم"، واسمه فيصل.

اقرأ أيضاً: أول مجموعة من مغاربة ليبيا تصل إلى مطار محمد الخامس

الطريق إلى الاستعباد

نصف العائدين من الاحتجاز في ليبيا ينحدرون من منطقة بني ملال ونواحيها، بل يوجد من بينهم أكثر من 40 شاباً ينتمون لدوار واحد، وهو "أولاد إيلول" وآخرون من منطقة "سوق السبت" و"أولاد زيدوح" والقرى المجاورة.

داخل مقهى هي المتنفس الوحيد لأبناء المنطقة، التقى "تيل كيل عربي" الشباب الثلاثة نبيل وجمال ومحمد، يجمعون في وصف أنفسهم عندما كانوا في الطريق إلى ليبيا على عبارة "كنا مثل البضاعة".

رحلت الشباب الذين استقى "تيل كيل عربي" شهاداتهم متشابهة، وإن اختلفت في جزئياتها البسيطة. وعن تفاصيل الرحلة، قال جمال: "وصلنا إلى الجزائر يوم 23 يوليوز 2017، ودخلنا ليبيا يوم 27 من نفس الشهر، قضينا 3 أيام في الجزائر، قبل أن نتوجه نحو الحدود".

وتابع"كنا نحو 16 شخصاً. حطت طائرتنا بمطار الهواري بومدين، ثم أخذنا سيارة الأجرة نحو (خروبة)، هناك ركبنا حافلة قطعت بنا 700 كيلومتر نحو منطقة أخرى اسمها (ورغلة)، وصلناها بعد 12 ساعة من السفر، ثم صعدنا شاحنة ، واتجهنا إلى نقطة العبور الثالثة، أخذنا سيارة أجرة أوصلتنا إلى منزل في الجزائر يكتريه زعيم شبكة الهجرة. أقمنا هناك 3 أيام، ثم جلب لنا وسيط تكلف بمجموعتنا شاحنة كبيرة لكي تقلنا إلى الحدود الليبية".

محمد ابن نفس الدوار (أولاد إيلول)، وصل رفقة 12 شخصاً إلى الجزائر خمسة أيام قبل وصول مجموعة جمال، ومر بنفس المحطات التي قطعتها مجموعة الأخير، وعن تفاصيل الرحلة أوضح أنه  "بعد الوصول إلى ليبيا، قطعنا مسافة طويلة بسرعة فائقة دون أي اجراءات للسلامة، كان احدنا إذا سقط يمكن أن يموت. هناك من تقيأ وهناك من تبول في سرواله، دون أن تتوقف السيارتان، وسائقاهما يخاطبان الجميع بنفس اللغة (إذا وقع أحدكم لن أقف صافي الله يرحمو، ولا تطرقوا النافذة للوقوف حتى يموت أحدكم).  كان من يرافقنا مسلحاً. طلية الرحلة،  لم نأكل ولم نشرب، وعندما نطلب ذلك، نسمع جواباً واحداً (مُوت)، صراحة وقعنا بيد مافيات حولوتنا إلى عبيد".

نبيل الذي كان ضمن مجموعة جمال،  قال "  تم حشونا داخل عربات مثل الحيوانات، وللإمعان في إخفائنا قام السائق رفقة الوسيط بوضع لوح خشبي كبير فوق رؤوسنا، وجلسنا القرفصاء تحته، ترتطم رؤوسنا بالسقف كلما اهتزت الشاحنة".

روابة اخرى على لسان محمد، ابن مدينة "سوق السبت"، الذي ببلغ من العمر 18 سنة، ويتابع دراسته في التكوين المهني، ركب قارب المغامرة رفقة صديق له يبلغ من العمر 16 عاماً.

كانت رحلة ابن "سوق السبت" مشابهة لرحلة الباقين، وقال إنها كلفتهم ما بين 2500 و3000 يورو (قرابة 26 ألف درهم و31 ألف درهم)، مقابل دفعته أسرهم مباشرة بعد وصولهم إلى آخر محطة، حين تواصلوا معها عبر تطبيق "واتسآب"، وطلبوا تحويل الأموال إلى "العم". خطوة جعلتهم تحت رحمة الأخير، يقول محمد، وأضاف "كذب علينا حين قال غدا الرحلة نحو إيطاليا، لكن قضينا 3 أشهر تقريبا داخل المنزل الذي خصصه لإقامتنا، وكنا نأكل ما يتركنا على قيد الحياة فقط، كدسنا داخله وكنا 155 شخصاً".

في قبضة مافيا الاتجار بالبشر

رحلة مجموعة جمال وابن دواره نبيل كانت أكثر رعباً، نحو ليبيا، فما إن توغلوا بنحو 30 كيلومتراً داخل أراضي الجمهورية المفككة، حتى اعترضت طريقهم مافيا، سلبتهم كل ما يملكون وأعادت بيعهم لشبكة "العم" بـ1000 يويو.

وعن تفاصيل ما عشوه، يحكي جمال أنه "بعدما قطعنا 30 كيلومتراً اعترضت مافيا طريقنا وأطلقوا علينا الرصاص.  كاد ان يغمى علينا بسبب الخوف. قام أحد عناصر المافيا بالركوب إلى جوار السائق واضعاً بندقيته على رأسه، وقام آخر بقيادة السيارة الثانية التي كانت تقلنا، وتبعنا الآخرون في سيارات رباعية الدفع مسلحين بشكل رهيب، ثم أدخلونا إلى مخزن كبير وقاموا بتجريدنا من كل ممتلكاتنا وهم يوجهون فوهات البنادق نحو جباهنا، سلبونا كل شيء. انا سلبوا مني 850 يورو، بالإضافة إلى الهواتف الذكية وكل شيء ثمين، ومن قاوم تعرض للضرب بمؤخرة البنادق أو قضبان من الحديد، وخسر المقاومون لأوامر عناصر المافيا جوازات سفرهم".

لم يكن نبيل وجمال وباقي عناصر المجموعة ينتظرون غير الموت. قال جمال وهو يرتجف، "بعد كل هذا الرعب قلنا سوف نُعدم على أيديهم، لكن قاموا بإطلاق سراحنا ليتسلمنا الوسيط. اكتشفنا حينها أن كل ما وقع كان مسرحية جيدة الإخراج بتنسيق من (العم) زعيم شبكة الهجرة الرئيسي، لأن الوسيط أعاد لنا في وقت لاحق جوازات السفر، وعدداً من الهواتف التي سلبت منا".

اقرأ أيضاً: ليبيا.. مافيا الاتجار بالبشر تهدد بقطع رأس مغربي محتجز (تسجيل 

يوم حاصر الجيش الليبي المغاربة

الجحيم الليبي لم ينته بالفردوس الأوروبي. "اعتقلنا الجيش في الأسبوع الذي وعدنا فيه (العم) بأخذنا لركوب الزوارق نحو أوروبا، وقام فعلاً حينها بجلب السيارات التي سوف تقلنا، قبل أن نفاجأ بتغيير الموعد بحجة أن البحر هائج والرياح قوية ولا يمكن الإبحار. وعدنا بموعد آخر، وكان اليوم الموعود هو يوم الاثنين 10 أكتوبر، لكن الجيش اقتحم مكان الإقامة يوم 5 من نفس الشهر وكان يوم خميس". يقول محمد ابن "سوق السبت".

نفس الرواية نقلها الشباب الثلاثة من دوار "أولاد إيلول"، وقالوا: "كنا موزعين على 3 منازل المجموعة التي كنا فيها تضم 155 شخصاً، حاصر الجيش المنازل الثلاثة يوم الخميس، وقاموا بإطلاق الرصاص على أقفال الأبواب عندما رفضنا فتحها. اعتقدنا أنهم عناصر تابعة لتنظيم (داعش)، بدأنا في ترديد الشهادتين وهناك من أدى الصلاة وهو يطيل السجود في انتظار لحظة دخول العناصر المسلحة التي اعتقدنا أنها سوف تطلق الرصاص علينا في الداخل".

اطمأن المغاربة حسب الشباب الأربعة  عندما صاحت عناصر الجيش: "أمان الله عليكم لن يمسكم سوء افتحوا الباب وضعوا أيديكم فوق رؤوسكم وخرجوا واحدا واحداً". وتابع الشباب: "قمنا بتنفيذ أوامر الجيش، ثم اقتادونا إلى مكان جمعت فيه كل المجموعات الأخرى".

ومباشرة بعد اعتقالهم، اقتادهم الجيش حسب محمد ابن "سوق السبت"، نحو مكان كبير أشبه بمقر شركة مهجورة، ووضعوهم رفقة مهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء عددهم قرابة 6000 آلاف امرأة ورجل قضوا فيه 10 أيام، وسمحوا لهم ببناء عشش في محيطه، ليفصلوا أنفسهم عن باقي المجموعات من الجنسيات الأخرى.

مقبرة مركز "زوارة"

ووصف الشاب محمد ابن "سوق السبت"، ظروف عيشهم داخل المركز في "زوارة" بمدينة صبراتة بالقول: "كنا نعيش القهر وسط الأوساخ والقمل الذي زحف على رؤوسنا، بلا أدوية بلا استحمام، الماء يطلق لدقائق فقط ونقوم بملأ ما نطفئ به عطشنا. كنا نقف في صف يضم 120 شخصاً، ننتظر دورنا لساعات كي ندخل الحمام، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدداً منا أصيبوا بالإسهال الحاد. ننام اثنين فوق ما يشبه السرير على الأرض مباشرة، بغطاء واحد لكل اثنين منا، رغم البرد. داخل كل غرفة، يوجد 45 شخصاً، ومساحتها لا تتجاوز 5 على 5 متر مربع".

 "قضينا داخل المركز  ما بين 55 إلى 60 يوماً، لا أذكر بالتحديد. مجموعتنا كانت تضم 155 مغربياً، وجدنا الباقين في المركز الذي احتجزنا فيه، والذي قيل لنا يوم دخوله أننا سوف نقضي فيه يومين فقط، لكن تأخر الإجراءات من لدن السلطات المغربية، حسب ما أخبرنا به المسؤولون عن المركز، كان سبباً في تأخر ترحيلنا"، يقول محمد.

تحدث الشباب عن أنهم عاشوا الجوع والمرض والخوف، وكانت وجباتهم ثلاث في اليوم، "صباحا خبزة وقطعة جبن، في الغذاء غالبا يقدمون لنا المعكرونة أو الرز ونادرا ما نحصل على قطع لحم صغيرة جدا، واللحم يمنح للنساء أولا من المحتجزات وكن من جنسيات أخرى، وفي العشاء الخبز فقط مرة واحدة ومرة اثنتين (خبز حرفي)".

"قمنا ببيع ما نملك لتوفير الأكل من خارج السجن"، يقول نبيل، وتابع أنه "كان يلزم كل واحد منا قرابة 150 درهم لتوفير مؤنة أسبوع. خلال الأيام الأولى كنا نشتري علبة سجائر بـ30 درهما مغربية، وبعد ما تعرفنا أكثر على رجال الشرطة المكلفين بحراستنا أصبحنا نشتري 12 علبة بـ30 درهم".

ظروف الاحتجاز جرت على عدد من المغاربة حالات صحية ونفسية خطرة ومهزوزة بتعبير الشباب الذين التقاهم "تيل كيل عربي"، وحكى هؤلاء بحسرة ما وصلوا إليه من أوضاع، بذكر أن "عدداً منهم فقد صوابه، وأصبح بينهم وبين الجنون خيط رفيع، هناك من دخل في هيستيريا بكاء وصراخ ليلاً". وأوضح الشاب محمد ابن "سوق السبت"، أن "حالة شاب وصلت مرحلة خطيرة جدا. أصبح يرتجف دائما ولا يقوى على تحريك يداه ولا يستطيع الكلام وكلما وقف سقط مغشيا عليه، اسمه" عبد الله ف"، ينحدر من مدينة غرسيف".

الإسهال الحاد، والحمى، ونزلات البرد، وألم المفاصل، والتهام اللوزتين، أمراض تكبد المغاربة آلامها وحرها دون أن يجدوا الدواء والعلاج داخل مركز "زوارة"، ويؤكدون في شهاداتهم أنهم لم يروا طبيب يوماً، ومن حالفه "الحظ" منهم وزاره، ذهب للحديث دون حصوله على ما يسكن آلامه ويشفي سقمه.

اقرأ أيضاً: بالصوت والصورة.. شهادات مغاربة بيعوا كالعبيد في ليبيا

كسر الحصار وتسريب المعاناة

استطاع المغاربة كسر الحصار والمراقبة الشديدة داخل مركز "زوارة"، بتسريب عدد من الصور والفيديوهات التي عرفت بقضيتهم. لكن كيف تم ذلك؟ الجواب على لسان الشباب نبيل، الذي كشف أنهم "قاموا بتصوير الفيديوهات والصور في ظروف جد صعبة وذلك بهواتف استطاع عدد من المغاربة تهريبها إلى داخل المركز".

كيف حصلتم على الربط بالإنترنت؟ "كان عدد منا يتوفرون على شرائح هاتف لشركات اتصالات ليبية، بفضلها تواصلنا مع عائلاتنا وأصدقائنا وسربنا ما شاهدتم من صور وفيديوهات".

كيف كنتم تشحنون هواتفكم؟ "كنا نشحنها بكهرباء مسروق من مفاتيح الضوء على الحائط، خاطرنا أكثر من مرة لابتكار طريقة لضمان شحنها".

النشيد الوطني فرحاً بقرب الفرج

وما إن وصل الشباب الأربعة في سرد حكايتهم عن جحيم ليبيا، إلى لحظة توصلهم بخبر زيارة ممثلين عن السفارة المغربية في تونس، حتى علت الابتسامة وجوههم، واختفت ملامح الخوف والحسرة، لتحل محلها بارقة أمل وكأن الخبر وصلهم للتو مرة أخرى وهم هناك.

يقول محمد وجمال ونبيل بهذا الصدد، وهم يبتسمون ويرفعون صوتهم الذي كان خافتاً حين سرد تفاصيل المعاناة، "يوم أخبرنا مدير المركز بزيارة المسؤولين المغاربة لنا يوم الاثنين، وقرب خروجنا، فرحنا وغنينا، وأول ما رددناه النشيط الوطني. أطلقنا صرخات الفرح والتصفيق والصفير ولم ننم 4 أيام حتى جاء موعد أخذ بصماتنا".

محمد ابن "سوق السبت" تحدث بدوره عن اللحظة بفرح، "مدير المركز هو من أخبرنا قبل 10 أيام من يوم خروجنا بزيارة المسؤولين المغاربة. هناك من أجهش بالبكاء فرحاً، ورددنا النشيد الوطني، واكتملت الفرحة يوم تسلمنا تصريحات الخروج، وجاؤوا يوم الخميس 8 دجنبر بالحافلات استعداداً لأخذ بصماتنا.

اقرأ أيضاً: اهتمام  إعلامي دولي واسع بتحقيق "تيلكيل عربي" حول بيع المغاربة في ليبيا