الرخص الاستثنائية تفتح باب الارتشاء والفوضى في تدبير العقار والبناء بالمدن

المصطفى أزوكاح

تفتح الاستثناءات التي أضحت قاعدة  في مجال التعمير بالمغرب الباب أمام الريع والارتشاء، ما يفضي إلى بعض الممارسات في البناء المضرة بجمالية المدن، خاصة في ظل عدم احترام المعايير المفترض الامتثال لها وعدم توفير التجهيزات الضرورية في حياة الناس.

صورة أولى تظهر محلا تجاريا بني فوق رصيف، وصورة ثانية تبرز مقاعد مقهى تحتل  الرصيف حارمة الناس من حقهم في المرور، وصورة ثالثة تكشف عن بناء مقام على أرض تربتها زلقة، وصورة رابعة تحيط بأبنية شيدت على أرضية تطل على منحدر، وصورة خامسة تشير إلى تلك المركبات السكنية التي تزحف على الأراضي الزراعية في ضواحي المدن الكبرى، وصورة سادسة تحيل على مأساة انهيار عمارة بحي بوركون بالدار البيضاء.

ارتجال لتدبير العجز

صور مفزعة تلك التي اختتم بها عبد العزيز عديدي، رئيس المنتدى الحضري بالمغرب، تقديمه للمائدة المستديرة، التي نظمتها جمعية محاربة الرشوة (ترنسبارنسي) بالدار البيضاء الاثنين، حول "الشفافية في تدبير العقار الحضري"، والتي جرى التركيز خلالها على الشفافية في تدبير وثائق العمير، والمتمثلة في تراخيص التجزئة والبناء والاستثناءات ورخصة السكن.

تعكس الصور حالات من الفوضى والانفلات القانوني، تؤكد حقائق ترسخت في الأعوام الأخيرة، والتي تتمثل في عدم وجود سياسة استباقية حول التطور الحضري، وتأخر تطبيق مخططات التعمير، التي لا يتعدى تطبيقها ما بين 10 و20 في المائة، وضعف المرونة في القوانين التي تنظم مخططات التعمير ما يفتح الباب أمام الاستثناءات في التراخيص.

تلك التراخيص التي تفتح الباب أمام الممارسات المرتبطة بالرشوة والزبونية والحقوق غير المستحقة، حسب مشاركين في المائدة المستديرة، الذين يدعون إلى البحث عن حلول لترسيخ الشفافية، في قطاع التعمير، الذي تتجاذبه مصالح ثلاثية الأبعاد: المصلحة العامة والمصلحة الخاصة والمصلحة السياسية.

وتتجلى أهمية إضفاء نوع من الشفافية في قطاع العقار عبر سياسة التعمير والمخططات المرتبطة بها، في ظل توقع انتقال نسبة الساكنة الحضرية من 63 في المائة ضمن مجمل الساكنة بالمغرب في 2019 إلى 75 في المائة في أفق 2040، ما يستدعي سياسة تعمير تبتعد عن المقاربة التقنية إلى المقاربة الاستراتيجية والاستشرافية.

ويشير عبد العزيز العديدي إلى أن سياسة التعمير ركزت تدبير العجز Déficit المسجل في الأراضي، وهذا ما يفسر التوسع العمراني الزاحف على الأراضي الفلاحية، الذي يحتل ما بين 5 و10 آلاف هكتار في العام منها، ما يدفع إلى توقع أن يأتي التعمير على حوالي 150 ألف هكتار من الأراضي في العشرين عاما المقبلة.

تسخير الأراضي الذي يأتي في إطار الاستثناءات، يثير الكثير من التساؤلات لدى الخبراء، الذين يرون أن ذلك يفتح الباب أمام بعض الممارسات التي تحيل على الريع والزبونية، ما ينعكس سلبا على جمالية المدن، التي لا يتم التخطيط لها على المدى البعيد. فالاستثناءات تصبح قاعدة، في ظل عدم تحيين مخططات التهئية الحضرية التي يمكن أن توضح الرؤية حول مستقبل المدن.

140 مليارا لتصحيح الأخطاء

لقد دأبت "تراسبارنسي" على تصنف السكن والتعمير، مع الأمن والقضاء، ضمن القطاعات الأكثر عرضة لظاهرة الرشوة، غير أن وزارة الإسكان والتعمير وسياسة المدينة، رصدت في دراسة لها في ماي الماضي،  101 من مظاهر الرشوة، التي تبدأ تلك المرتبطة بالتخطيط والتدبير الحضري، الذي يهم إعداد والتصديق على وثائق التعمير والتراخيص والاستثناءات، وتنتهي بإنجاز وتسويق المشاريع العقارية.

ووزعت الدراسة مخاطر الرشوة، بين 7 تمس التخطيط الحضري، و5 تخص إعداد العقار، و57 تطاول البناء والأشغال، و32 ترتبط بالتسويق والتوزيع. وتشير، عند تحديد طبيعة المخاطر، إلى تصنيف 27 منها باعتبارها بسيطة، من قبيل استعمال الرشوة للحصول على رخصة بناء أو ملاءمة أوشهادة ملاءمة، و25 مصنفة خطيرة، كأن تستعمل الرشوة من أجل تفادي عراقيل بهدف الحصول على رخصة أو تسريع مسطرة، و5 ينظر إليها على أنها أكثر خطورة من قبيل الإدلاء بفواتير وهمية والرشوة من أجل البناء ليلا.

وأبدى أنيس بنجلون، عضو الفيدرالية الوطنية للمنعشين العقاريين، الكثير من الغضب من سياسة التعمير التي تفضي إلى حرمان الناس من سكن لائق ومرافق عمومية محترمة، مشيرا إلى المغرب تبني سياسة في مجال التعمير ستقتضي تسخير 140 مليار درهم، من أجل تصحيح الأخطاء السابقة.

ويتساءل حول غياب المرافق الرئيسية في الكثير من التجمعات السكانية، ضاربا مثلا بمشروع مدينة تامسنا، مشيرا في الوقت نفسه، إلى 20 في المائة فقط من التجهيزات، يتم توفيرها كما تتوقعها مخططات التعمير، التي تحتاج إلى تعبئة التمويلات الضرورية من أجل تجسيدها.

ويتصور بنجلون أنه يفترض وضع مدونة للبناء توضح الأدوار التي يضطلع بين مختلف الفاعلين، خاصة في ظل ملاحظة غياب التنسيق عند منح التراخيص بين الوكالات الحضرية والجماعات المحلية والعمالات، مشيرا إلى أن الجماعات المحلية التي توفر رخص البناء لا تتوفر على الكفاءات التقنية التي تخول لها الحسم، زيادة على البطء في إتاحة بعض التراخيص الذي قد يستغرق في بعض الأحيان بين 12 و18 شهرا، ما يكبد المستثمرين خسائر كبيرة.

الاستثناء يتحول إلى قاعدة

إذا كانت مشكلة تعدد المتدخلين وبطء تطبيق المساطر، قد استأثرت بحيز كبير من النقاش، فأن جدلا كبير دار خلال المائدة المستديرة حول مشروعية الاستثناءات، بين قائل بضرورة وضع حد لها لأنها أضحت قاعدة ينزاح التعامل بها عن طابعها المؤقت، وبين داع لإعادة تأطيرها من أجل الابتعاد بها عن الاختلالات التي قد تشوب الممارسات المرتبطة بها، بل إن هناك من شدد على ضرورة العمل بالاستثناءات على مستوى تراخيص التعمير في إطار نوع من التشاور.

ويتصور عبد الصمد صدوق، نائب الكاتب العام لجمعية محاربة الرشوة، أنه يفترض القطع مع التعامل بالاستثناءات في مجال تراخيص البناء، ملاحظا أن التعمير استند بنسبة 50 في المائة منها على الرخص الاستثنائية، مشيرا إلى أن ثلثي تلك الرخص موجهة للسكن، غير أن يوسف بمنصور، الرئيس السابق لفيدرالية المنعشين العقاريين يعتبر أن التوجه نحو الاستثناءات في منح رخص البناء، جاء في سياق خاص بالمغرب، حيث جرى العمل بها، في البداية بمدينة الدار البيضاء، بعد ملاحظة عدم تجديد مخطط التهيئة الحضرية قبل عشرين عاما، ما استدعى منح استثناءات من أجل توفير السكن الاجتماعي، الذي راهنت عليه الدولة كثيرا، وهو توجه امتد إلى مدن أخرى.

ويلاحظ عبد الرحيم كسيري، رئيس لجنة الجهوية المتقدمة والتنمية القروية والترابية بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن 600 هكتار تسخر في إطار الاستثناءات سنويا، بمعدل هكتارين في اليوم تقريبا. تلك أراض تسخر من قبل الدولة دون مقابل على مستوى التجهيزات التي تبقى ضعيفة، ما يتيح فضاءات سكنية تنعدم فيها أسباب الحياة.

وفي الوقت الذي يشدد حسن سراج، مدير التخطيط الحضري بالوكالة الحضري للدار البيضاء، على أهمية الرقمنة في الحد من المظاهر غير السوية التي يمكن أن تنجم عن تعدد المتدخلين في قطاع التعمير، يعتقد الاقتصادي كمال المصباحي، عضو جمعية محاربة الرشوة، أن الحل يجب أن يكون في بعض الأحيان سياسيا، على اعتبار بعض المظاهر غير السوية المرتبطة بالتعمير لها أسباب تتصل باعتبارات سياسية، ضاربا مثلا بأحد أحياء فاس العشوائية الذي يأوي ما بين 150 و200 ألف نسمة. ذلك من بين الأمثلة الذي دفع النقاش إلى طرح التساؤل مدى وجاهة التدبير المركزي للعقار أو التوجه نحو التدبير الجهوي، بما قد يفضي إليه ذلك من انحرافات، ذات علاقة باستعمال العقار لأهداف انتخابية.