ياسين اغلالو يقرأ لكم رواية.. "أغنية هادئة" لليلى السليماني

تيل كيل عربي

 في عملها "أغنية هادئة"، والتي فازت بجائزة الغونكور سنة 2016، تثير ليلى السليماني مجموعة من المواضيع الشائكة، لكن هذه الاخيرة تنتظم حول نقطة واحدة وهي "الوعي الشقي المعاصر الذي رافق تحولات الحياة المعاصرة". إنه صرخة وليس عملا أدبيا، فهذا العمل احتجاج وإثارة لترسبات الحياة المعاصرة التي باتت تفترسنا بتعبير ليلى السليماني. هكذا اتخذت الكاتبة من اليومي مادة لعملها، ولكنه يومي أصبح تجارة رائجة بالغرب ويضمن لخبراء هذه المادة الحظوة والدخول لعالم الأدب بقليل من الذكاء.

شخوص الرواية تتخذ أبعاد ودلالات انطقتها الكاتبة قيما معاصرة تعكس صراعات العصر وتحولاته، خصوصا وأنها شخوص تبوح من جغرافية غربية فرنكوفونية. لكن الشخصية الرئيسية اختيرت لها هوية إسلامية واسم متداول عربيا، ولكنها مسلمة "لايت" ذات ملامح معينة (لها موقف سلبي من الحجاب واللغة العربية ...). هذه الشخصية تحمل تحديات اثبات الذات وتخوض مسيرة تشخصن طويلة ومضطربة من داخل علاقة زواج مع رجل فرنسي الاصل وهي القادمة من المغرب. فتبدأ هكذا محنة تلك العربية المسلمة في عالم جديد تطرح فيه مشكلة: التربية، والقيم ووضعية المرأة، والصراع الطبقي او الفوارق الاجتماعية التي تبرز عبر شخصية "لويز" الخادمة والمربية التي  تنقلت بين عائلات متعددة كمربية تعوض الام التي خرجت للعمل مضطرة أحيانا وباحثة عن تحقيق الذات احيانا أخرى...عبر هذه الشخوص وأخرى كثيرة تنقل الكاتبة مختلف الانفعالات والعواطف الانسانية التي تتفجر، والحياة قد استبدت بنا.

إن تغيرات الحياة المعاصرة تزيد من حدة مشكلة التربية، خصوصا في عالم وجغرافية سائلة مختلطة الهويات ومنفلتة من التحديدات الحدية. هكذا تجد مريم الشخصية الرئيسية  في رواية "أغنية هادئة" لليلى السليماني نفسها متورطة في الحياة. ورطة الحياة تتخذ تجليات متعددة: فمريم المغربية المتزوجة من فرنسي وأم لابنين تجد نفسها مسجونة في مؤسسة الزواج التي باتت تسلب منها احلامها وهي المتعلمة والحاصلة على شهادة عليا، ولطالما حلمت باعتلاء منصات المحاكم كمحامية. عبر هذه الوضعية تنبعث انفعالات النفس وعواطف، سواء من جهة الزوج او الزوجة.  خصوصا والأمر يتعلق بوعي نسوي جديد يبحث عن الوصفة السحرية  لمواجهة التحديدات النمطية والأدوار التقليدية التي أوكلها المجتمع للمرأة. هكذا أرادت مريم ان تتحرر من حتمية الامومة والطبيعة، خصوصا وأن مؤسسة الزواج لم تعد مغرية بالعيش، والولادة والأبناء بعدما تبين أنه سقوط في فخ الطبيعة.

كيف صارت الولادة والأبناء فخ نصبته الطبيعة؟ وكيف صار الاطفال مسخ أبدي؟ تم بناء هذه الفكرة في الرواية بعدما وقفت مريم على بؤس الحياة الزوجية، والحياة بشكل عام. مع العلم أن متطلبات الحياة باتت تسحقنا وبعض الوظائف لا تكفي امام امواج الحياة العاتية ومتطلباتها. لقد انتبهت مريم الشخصية الرئيسية في الرواية الى انها مسجونة في البيت "وبدأت تغار من زوجها، تنتظره بتوتر خلف الباب في المساء، وتقضي ساعة وهي تتأفف من صراخ الطفلين، وضيق الشقة ورتابة الحياة" ص16

لقد تراكمت الفواتير، والوعي النسوي الذي رصدنا بعض ملامحه يتأفف من رتابة الحياة، ويخوض ثورة على التحديدات والادوار التقليدية المحددة مسبقا للمرأة. وهكذا بات خروج المرأة للعمل امرا ضروريا، لكن السؤال المطروح هل هو خروج اضطراري لمواجهة بؤس الحياة وضيق اليد، أم أـنه خروج إرادي يعبر عن وعي جديد وصراع نسوي من أجل الاعتراف وإثبات الذات وهروب من حتمية الأمومة والطبيعة؟

تكتب ليلى السليماني عن مريم قائلة "لطالما رفضت أن يمثل الطفلان عائقا أمام نجاحها وحريتها، وأن يكونا مثل المرساة التي تسحب الى القعر، وتجر وجه الغريق الى الوحل". هذه الجملة تعبر عن معني جديد للحرية الإنسانية، وطرح جذري لغريزة الامومة ومساءلة لها. بحيث هل يستطيع الانسان أن يضحي بسعادته من أجل سعادة الآخر؟ هل تواسينا سعادة الآخرين حتى وإن تعلق الأمر بالأبناء الطرف المستل من كل زوجين؟

في إجابة الكاتبة عن هذه الأسئلة، راحت  تتفق مع زوجها لإحضار خادمة تتكلف بأمور البيت وتعتني بالأبناء. ولكن ما هي مواصفات هذه الخادمة؟ بالتأكيد التربية تتطلب الأمن والاستقرار والأخلاق، وتقارب في العمر بين الاولاد والمربية، لكن مريم لا تريد خادمة عربية مهاجرة مخافة ان تطمئن لها نفسها وتطالبها بأمور من باب تضامن المهاجرين العرب، وفكرة تضامن المهاجرين او الهجرة عموما فكرة غير مقبولة بالنسبة مريم هذه العربية المقيمة بفرنسا، وهي بالأكيد لا تريدها كبيرة السن، وطبعا لا تريدها مسلمة، ولا محجبة، ولا مدخنة مخافة أن تسرب لأبنائها تربية إسلامية معينة باتت غير مقبولة. وهكذا تصور الرواية مقطع لأم أحد الأبناء تقول "من الأمور التي تحز في نفسي ان ابني "أودين" هو التلميذ الأبيض الوحيد في الفصل، أدرك أنني لا أملك خيارا أخر، لكنني لا اعرف ماذا سأصنع إن عاد يوما الى البيت وهو يذكر الله ويتحدث بالعربية" ص62

هذا المقطع ينقل لنا بعض تجليات الإسلاموفوبيا بالغرب، وكيف ان بعض الأحداث قد لعبت دورا في تغيير ملامح العالم وتصوراتنا للتربية. بحيث نجد مريم تحرص كل الحرص على منع ابنائها من مشاهدة التلفاز بعد الاحداث الارهابية المتتالية، لكن حرصها باء بالفشل، بحيث الخادمة غالبا ما كانت تسمح لهم بمشاهدة ذلك وربما انها كانت تتلذذ بأحداث الذبح والدم والقتل التي تراها، والتي ستجسدها في الواقع بقتل الطفلين في نهاية الرواية رغم ان حدث الموت ونهاية الرواية قدمتها لنا الكاتبة في مقدمة الرواية. هكذا انتهت الرواية بحادثة دموية بشعة، وانتهى حرص الزوجين مريم وبول وعنايتهما باختيار الخامة الى اختيار قاتلة، هكذا تنكشف الطبيعة الانسانية الغامضة والعصية على الفهم والتجلي، فالخادمة التي طالما اثارت إعجاب كل مشغليها وكانت محطة إعجاب بول ومريم، وبقدر ما كانت تظهر عليها علامات تعلقها وحبها للأبناء بقدر ما كانت تخفي هوية قاتلة عنيفة انتهت بقتل الطفلين.

هكذا جعلت ليلي السليماني العنف والقتل ينبعث من الجسد الغربي نفسه، ومن ابن الدار مثلما قد ينبعث من المسلم الذي تبنى قيما متطرفة عنيفة والتي طالما عبرت عن خوفها منه وحرصها على مهاجمته. تثير الرواية مجموعة من الاسئلة: بحيث أعتقد ان الروائية تروج لإسلام معين، فرغم اصول مريم المغربية فهي لا تصرح بهويتها الاسلامية ولكنها لا تترد في التصريح بكرهها للحجاب والعربية...ومريم العربية هذه لا تخفي معاقرتها للخمر، وشفتيها تسيل لعابا امام السجائر، ولكنها لا تحب من يدخن امام ابنائها... لهذا فرواية "أغنية هادئة" لا تقدم لنا شخصية واضحة المعالم فيما يتعلق بالقيم والهوية الثقافية، ولكنها توفقت في تقديم صورة عن ملامح الحياة المعاصرة، وتقديس العمل، واثبات الذات والخروج للعمل ومشاركة المرأة في إعالة الاسرة وبناء الدولة. وهذا يتماشى مع روح المجتمع المعاصر الليبرالي، رغم ان الرواية تنطوي على نقد حاد لتربية اسلامية معينة، مثلما تنطوي على نقد لبعض تجليات الرأسمالية التي تفسد علينا لذة الحياة بكثرة المتطلبات وتعميقها للفوارق الاجتماعية.