حسن إدحم يقرأ لكم رواية.."البطء" لـ" ميلان كانديرا"

تيل كيل عربي

ما أن تفرغ من رواية ميلان كونديرا "البطء" حتى يتملكك حزن ممزوج بالكثير من الشفقة على عصرنا. لماذا؟ هذا هو السؤال الطبيعي الذي سيتسلل لذهن القارئ. ببساطة لأن علاقات الحب في عصرنا أضحت بلا طعم، وأصبحت نوعا من الاستعراض المصطنع في الغالب من الأحيان. 

       عندما نقول "كونديرا" تحضر الكثير من الأشياء المتداخلة في آن واحد، نتذكر عبره مواطنه الكبير "كافكا"، تحضرنا "التشيك"، بالأخص "براغ" التي لا تغيب عن أعماله، تنكشف أمامنا أوروبا الشرقية الشيوعية، السقوط والنهضة الجديدة...

    رواية "كونديرا"، التي  تقع في 125 صفحة من الحجم الصغير، وصادرة عن " المركز الثقافي العربي، في طبعة أولى عام 2013،،تحكي قصتي حب في زمنين مختلفين، لكنه يجعلهما متقاطعتين كأنهما تجريان في زمن واحد. واحدة من هذه القصص تجري في القرن الثامن عشر والأخرى تجري أحداثها في عصرنا الحالي، بأسلوبه اللاذع والساخر، يصور "كونديرا" القرن العشرين بكل تعقيداته وأحداثه المتداخلة...، كل ذلك يسلط عليه الضوء عن طريقة قصة حب، سريعة لا طعم لها، وباعثة على السخرية. عصرنا، عصر التقنية التي أنتجت مجتمعا على مقاسها، خاضعا لقوانينها، إنسان العصور الحديثة "دو بعد واحد" بلغة "هربرت ماركوز"، القيم الإنسانية والتي منها الحب، كلها تخضع لمنطق السرعة. هذه المعطيات كلها لا يقدمها كونديرا بلغة تقريرية جافة، وإنما جعلها في قالب روائي قصير يبعث على الضحك أحيانا، وعلى السخرية في الكثير من الأحيان.

   "لِم اختفت لذة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، أولئك المتسكعون الذين يجرون أقدامهم بتثاقل من طاحونة إلى أخرى، وينامون في العراء؟" ص6.7 البطء. هذا المقطع سيستوقف كل قارئ غير متعجل. هذا كلام نلمس فيه نوعا من الرثاء لزمن غابر ولى وانقضى، لكنه رغم ذلك ليس رثاء باعتا على البكاء بقدر ما هو رثاء لرؤية الحاضر بوضوح أكثر، الحاضر الذي لا يحفل بالمتمهل في كل شيء وفي أي ميدان، إذ عليك أن تصل أولا إذا أردت الفوز، أن تنجز أشياءك بسرعة فائقة، فهناك دائما من ينافسك وقد يصل أو ينجز شيئا قبلك، هذا المنافس ليس دائما متعينا، بل قد يكون متخيلا، فالزمن هنا يمكن أن نقيسه بالمال.

" عبر المرآة، أتابع السيارة ذاتها وهي لاتزال عاجزة عن تجاوزي بسبب سيارات الخط المعاكس. إلى جوار السائق تجلس امرأة. أتساءل في سري لم لا يحكي لها أشياء مسلية، لم لا يضع يده على ركبتها؟ عوض ذلك، يلعن سائق السيارة التي أمامه." ص.7. يشمئز "كونديرا" من هذا السائق المتعجل الذي لا يلقي بالا لعشيقته التي يُدخلها هي الأخرى في دوامة السرعة، وتنخرط في محاولة التجاوز...

       في لحظة مفاجئة تعود الرواية بالقارئ للوراء، للقرن الثامن عشر، الذي تسير فيه الأمور بطيئة. فهذه عربة تجرها أحصنة، وتقل عاشقين كلاسيكيين يتأملان بعضهما ويلقيان بين الفينة والأخرى نظرة للطريق والعشب والشجر، كل هذا يتم على وقع حوافر الأحصنة التي تصنع موسيقى متكررة تضفي على العاشقين نسمة هادئة." ثم تحضرني تلك الرحلة من باريس إلى قصر ريفي، التي تمت منذ أكثر من مائتي عام، رحلة السيدة  ت، والفارس الشاب الذي كان بصحبتها، جنبا إلى جنب لأول مرة، يلفهما جو الانجذاب لا يوصف، يولده الإيقاع البطيء" ص.7.

 حتى عندما يصل هذان العاشقان إلى قصر السيدة لا يتغير الإيقاع، بل يبقى هو هو بطيئا هادئا، يطول الحديث بينهما في حديقة القصر وسط الخضرة باحثين عن مقعد لهما لمواصلة الحديث، حتى حينما تصير القبل محل النقاش لا تنزلق الأمور بسرعة وتبلغ منتهاها بسرعة." بعد التلاحم الأول للحواس، إظهار أن المضاجعة لم تنضج، مما يعلي من قيمتها ويجعلها مشتهاة" ص.29. ينتهي هذا المشهد باختلاق السيدة لطارئ وتترك العاشق في الحديقة وحيدا، كل هذا لكي يكون الاتصال ذا معنى وتكون له كبير أهمية، فلو تم الأمر بسرعة واستسلمت السيدة لرغبتها وجموح العاشق الشاب لانطفأ الشوق لحظتها.

في هذا النص المترجم للعربية من قبل "خالد بلقاسم"، يقارن صاحب "غراميات مرحة" بين زمنين، ليحكي لنا في الأخير كيف أن السرعة مرتبطة بالنسيان، والبطء لصيق بالتذكر. تتم الأمور سريعة في زمننا وتُنسى بالسرعة نفسها كأنها لم تكن، في حين كان الحب يأتي متمهلا، بطيئا ويظل صامدا مقاوما لتقلبات الزمن، والأهم لا يتسلل من الذاكرة بسرعة.

    ليست هذه بالرواية الأشهر عند "كونديرا" هذا شيء أكيد، ولكن "لذة النص" بلغة "رولان بارط" تُلمس في قدرة هذا العمل على السخرية المرحة من حب العصور الحديثة، تلمس المتعة أيضا، في النفس الروائي الغير كلاسيكي الذي يدعونا إليه "كونديرا" كل مرة.