شهد المغرب، خلال الأسابيع الماضية، تساقطات مطرية مهمة، بلغت، في بعض المناطق، أكثر من 120 ملم، في أقل من أسبوع؛ مما أنعش آمال الفلاحين والمستثمرين في القطاع الفلاحي.
وجاءت هذه الأمطار في وقت حاسم، خاصة بعد موسم جفاف قاس تسبب في تراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 40 في المائة، خلال العام الماضي، وفق معطيات وزارة الفلاحة.
وبلغت النسبة الإجمالية لملء السدود، بتاريخ اليوم 11 مارس 2025، ما مجموعه، 4197.37 مليون متر مكعب؛ أي حوالي 26,03 في المائة، حسب الموقع الرسمي للمديرية العامة لهندسة المياه.
أمطار متأخرة بعض الشيء
وسجل التيباري خطاب، فلاح بمنطقة دكالة، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، اليوم الثلاثاء، أن "هذه الأمطار جاءت كنعمة بعد موسم صعب جدا؛ كون الحقول في دكالة تعتمد كثيرا على التساقطات المطرية، خصوصا زراعة الحبوب؛ مثل القمح والشعير، وأيضا القطاني؛ مثل العدس والفول".
وتابع خطاب: "المحاصيل، قبل الأمطار الأخيرة، كانت في وضع سيء؛ حيث باتت الأوراق صفراء والنمو متوقف تقريبا. بينما الآن، استعادت النباتات حيويتها؛ مما يعطينا أملا في الحصول على إنتاج معقول، هذه السنة. كما استفادت خضروات؛ مثل البصل والبطاطس، أيضا. لكن يبقى الري التكميلي ضروريا؛ لأن التربة في بعض المناطق لم تحتفظ بالمياه لفترة كافية".
وحول ما إذا كانت هذه التساقطات جاءت في الوقت المناسب، أم أنها تأخرت قليلا، رد المتحدث نفسه: "الأمطار جاءت متأخرة بعض الشيء، لكنها تبقى أفضل من لا شيء. في العادة، نحتاج إلى تساقطات منتظمة، منذ نونبر ودجنبر، لكي يكون الموسم الفلاحي جيدا. ولكن، للأسف، هذا السنة تأخرت، بشكل كبير؛ ما أثر على مرحلة الإنبات بالنسبة لبعض المحاصيل، خاصة القمح. لو جاءت قبل شهرين، لكان الإنتاج مضاعفا، لأمكننا، على الأقل، القول إنها أنقذت الموسم إلى حد ما، خصوصا إذا استمرت التساقطات في أبريل القادم".
المجالات الفلاحية المتوقع ازدهارها
ووفقا لتقديرات الخبير الاستراتيجي، أمين سامي، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، اليوم الثلاثاء، فإن أبرز المجالات التي يُتوقع أن تستفيد، بشكل واضح، من هذه الأمطار؛ هي الحبوب والقطاني؛ إذ يُتوقع أن تتحسن إنتاجية القمح والشعير والفول، عن طريق الاستفادة من الرطوبة في التربة، خلال الأسابيع المقبلة، بالإضافة إلى الأشجار المثمرة، خاصة أشجار الزيتون، التي قد تشهد موسما جيدا بعد انخفاض الإنتاج بنسبة 30 في المائة، خلال السنة الماضية، فضلا عن المراعي والثروة الحيوانية؛ حيث ستستفيد من الكلأ الطبيعي، بشكل مباشر؛ مما سيقلل من أسعار الأعلاف التي ارتفعت بنسبة 50 في المائة، في سنة 2023، والخضراوات والفواكه؛ حيث سيؤثر تحسن التربة، إيجابيا، على محاصيل الطماطم والبطاطس والبصل؛ مما قد يؤدي إلى استقرار أسعارها في الأسواق المحلية.
الاقتصاد الوطني
وسجل سامي أن "التساقطات التي شهدها المغرب، خلال الأسابيع الأخيرة، مهمة للغاية؛ كونها ستساهم في تحسين الغطاء النباتي، خاصة الكلأ للماشية، وسترفع من حقينة السدود المغربية، خاصة المياه، من أجل تدعيم القطاع الفلاحي".
كما اعتبر هذه الأمطار "بمثابة دفعة أمل للفلاحين، خاصة بعد سنوات من الجفاف المتواصل الذي أثر سلبا على الإنتاج الزراعي. وبالتالي، فتحسن القطاع الفلاحي سينعكس إيجابيا على الاقتصاد الوطني؛ حيث يُساهم بحوالي 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويُشغّل نحو 40 في المائة من اليد العاملة في المغرب".
تحسن الثروة الحيوانية
أما بخصوص احتمال تحسن الثروة الحيوانية في الشهور المقبلة، بسبب هذه التساقطات، فأبرز خطاب أن "هناك تحسنا تدريجيا"، موضحا أن "المراعي بدأت تنتعش، والمياه متوفرة أكثر للماشية؛ ما يخفف العبء على الفلاحين".
وأضاف: "إذا استمرت التساقطات في الأشهر المقبلة، أتوقع أن تتحسن جودة اللحوم، وتنخفض تكاليف الإنتاج؛ مما قد يساعد في استقرار الأسعار في الأسواق. لكن يبقى التحدي هو الحفاظ على هذه الموارد المائية، والتأكد من استدامة المراعي".
متى سيظهر تأثير التساقطات المطرية؟
ويختلف تأثير التساقطات حسب نوعية الزراعة. فبالنسبة للحبوب والقطاني، فإن التحسن في النمو سيبدأ بالظهور في غضون 3 إلى 4 أسابيع، مع توقعات بزيادة إنتاجية بعض المحاصيل بنسبة 20-30 في المائة.
وفي ما يخص الأشجار المثمرة، فإن التأثير قد يظهر خلال الأشهر المقبلة؛ حيث ستتحسن عملية الإزهار والتلقيح في أشجار الزيتون واللوز. أما بالنسبة للمراعي، فأظهرت تحسنا سريعا؛ حيث بدأت المناطق الرعوية في الأطلس المتوسط والهضاب الشرقية بالاخضرار، في غضون أسبوع واحد بعد الأمطار.
خفض الأسعار
من جهته، أبرز سامي أن "التساقطات المطرية الأخيرة قد تُساهم في تحسين إنتاجية المحاصيل الزراعية؛ مما قد يؤدي إلى زيادة العرض في الأسواق المحلية. ومع ذلك، فإن أسعار المواد الغذائية لا تحكمها التساقطات فقط، ولكن تحكمها عوامل أخرى؛ مثل تكاليف النقل واللوجيستيك، وأسعار المحروقات، والمنافسة، والعرض والطلب، والتضخم، إلخ. ولكن على الأرجح، ستساهم هذه الأمطار في انخفاض مهم للأسعار، في حين قد يظل سعر بعض المواد مرتفعا، خلال الأيام المقبلة؛ كالمواد الغذائية المصنعة المستوردة من الخارج، على أمل أن تُساهم التساقطات المستمرة في تحسين الوضع، على المدى المتوسط".
العلف
وعما إذا خفّضت هذه التساقطات من تكاليف العلف، أم أنها لا تزال تعتمد على الأعلاف الصناعية، رد خطاب: "هناك فرق واضح. فقبل الأمطار، كنت أشتري الشعير المدعم بحوالي 300 درهم للقنطار، وأحيانا بأسعار أعلى؛ لأن المراعي كانت شبه معدومة. أما الآن، وبفضل نمو الأعشاب، بدأت الماشية تعتمد أكثر على المراعي الطبيعية؛ مما قلل من الحاجة إلى العلف، بشكل ملحوظ. لكن رغم ذلك، لا يمكننا الاستغناء عن الأعلاف تماما، خاصة أننا ما زلنا في بداية فترة الانتعاش، والطلب على العلف يبقى مرتفعا".
هل ستعوض الخسائر؟
وحول ما إذا كان بإمكان هذه التساقطات أن تعوض الخسائر التي تم تكبدها في المواسم السابقة، أكد المتحدث نفسه: "ليس بالكامل. الموسم الماضي كان كارثيا، وخسرنا جزءا كبيرا من الإنتاج. صحيح أن هذه التساقطات ستساعد في تعويض جزء من الخسائر، لكنها لا تكفي لتغطية الديون والتكاليف التي تكبدناها بسبب الجفاف. نحن بحاجة إلى موسم متكامل، وليس فقط بضعة أسابيع من الأمطار".
النمط المناخي
وفيما إذا كانت التساقطات المطرية الأخيرة تشير إلى تغير في النمط المناخي السائد في المغرب، أم أنها تظل ضمن التقلبات المناخية الطبيعية، أوضح الخبير في مجال البيئة والتنمية المستدامة والمناخ، العيسات المصطفى، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، اليوم الثلاثاء، أن "هذه التساقطات المطرية والثلجية الأخيرة تندرج ضمن التغير الحاصل على الدورة الطبيعية للفصول؛ بسبب تداعيات التغيرات المناخية".
وأضاف المصطفى: "فبعد سنوات من الجفاف الحاد الذي عرفته المملكة، نعيش اليوم على وقع أمطار غزيرة توزعت على جميع أقاليم المملكة، مسجلة أعلى نسبها في شمال المملكة؛ حيث تراوحت ما بين 200 و250 ملم، خلال يومين، في كل من طنجة وتطوان وشفشاون. وهذا ناتج، بالأساس، عن الاضطرابات الجوية القادمة من أوروبا تحت ثأثير ما يعرف بظاهرة "جانا"، التي تسببت في عواصف وفياضانات في كل من إسبانيا وفرنسا".
وتابع المتحدث نفسه: "سيكون لهذه التساقطات وقع إيجابي على حقينة السدود ومنسوب المياه الجوفية. كما ستساهم في إنقاذ الموسم الفلاحي وتوفير المراعي لقطيع المواشي الذي تدهور، بشكل كبير، بسبب الجفاف وارتفاع تكلفة الأعلاف؛ مما يستدعي الاستمرار في تعبئة الجهود والموارد لتنزيل البرنامج الوطني للتزويد بالماء والسقي، بتسريع إنجاز السدود المبرمجة لتخزين موارد إضافية، وكذلك مشروع الطرق السيارة المائية للربط بين الأحواض، لنقل فائض المياه إلى كل من طنجة وحوض أم الربيع، والعمل على حكامة تدبير هذه الموارد المائية وترشيد استعمالها، خصوصا مجال الري الذي يعرف استنزافا كبيرا، بالاعتماد على تقنيات الرش وطرق السقي التقليدية، ناهيك عن استعمال المياه الجوفية، بشكل عقلاني ومراقب، كما دعا إلى ذلك عاهل البلاد، في خطاب العرش الأخير، دون أن ننسى تكييف زراعاتنا مع هذه التغيرات المناخية، بالابتعاد عن الزراعات المستنزفة للمياه، والاستفادة من البحث العلمي لتطوير بذور أكثر صمودا مع المناخ الجديد، خصوصا في ما يتعلق بالحبوب والمواد الأساسية، لتحقيق السيادة والأمن الغذائي للمملكة. وأخيرا، لا بد لنا، اليوم، من تحقيق التقائية المشاريع لاستخدام الطاقات النظيفة المتجددة في مجالنا الفلاحي، لتخفيف تكلفة الإنتاج، والانخراط في الاقتصاد الأخضر بمنتوجات خالية من الكربون، والحفاظ على استقرار الأسعار التي أصبحت تستنزف جيوب المواطن وتؤثر على معيشته اليومية".
توقعات مستقبلية
وعن التوقعات المستقبلية للتساقطات المطرية في المغرب في ظل التغيرات المناخية العالمية، قال المصطفى إنها "ستبقى، كالسنوات الفارطة، غير مستقرة، حسب الدورة الطبيعية للفصول، وتتأخر عن وقتها المعتاد؛ مما يتطلب تكييف الزراعات، خصوصا الحبوب، مع هذا المعطى المناخي الجديد".
كا أشار إلى أن "هناك أبحاثا جارية في المعاهد المغربية، بتمويل من وزارة الفلاحة، بهذا الخصوص"؛ حيث دعا إلى "ضرورة الاستثمار في هذا النهج، لتطوير بذور معدلة، وإرجاع بعض البذور الأصلية؛ كالقمح الصلب، والشعير البلدي المقاوم والأكثر صمودا مع التغيرات المناخية".
التكيف مع التغيرات المناخية
أما في ما يتعلق بالإجراءات التي يجب اتخاذها للتكيف مع التغيرات المناخية والحد من آثارها على القطاع الفلاحي، فسجل المتحدث نفسه أنه يجب على المغرب "تشجيع اعتماد تكنولوجيا السقي بالتنقيط، واستعمال الرقمنة، لترشيد استهلاك الموارد المائية، وتشديد مراقبة الآبار، خصوصا غير المرخصة، للحفاظ على المياه الجوفية".
وفي ما يخص قطاع المواشي، فدعا إلى "تحصينه؛ كونه يتأثر بارتفاع درجات الحرارة، وذلك عن طريق توفير التلقيحات اللازمة ضد الأمراض المرتبطة بالحرارة المرتفعة، وتحسين نوع السلالات المتكيفة مع المناخ الجديد، والعمل على توفير الأعلاف محليا، لتشجيع مربي الماشية، وإعادة تكوين القطيع، وتحقيق الاكتفاء الذاتي".
وختم حديثه بالقول: "وفي نفس السياق، يعد ورش تنزيل البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب والسقي أهم استراتيجية يمكن لها المساهمة في تحقيق الأمن المائي، خصوصا الشق المتعلق بإنجاز السدود الكبرى والتلية والصغرى، ومشروع الربط بالطرق السيارة المائية ومحطات تحلية مياه البحر ومحطات معالجة المياه العادمة".
إجراءات الاستفادة القصوى
وحسب الخبير الاستراتيجي، "تُشكل الأمطار الأخيرة فرصة ذهبية لتعزيز القطاع الفلاحي وتحقيق تنمية مستدامة في المغرب، شريطة تبني استراتيجيات مبتكرة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والإدارة الذكية للموارد. وبالتالي، فإن ما يجب القيام به هو الاستفادة من المياه المتاحة اليوم لضمان أمن غذائي ومائي مستدام، وتقليل تأثيرات التغير المناخي مستقبلا".
وسجل سامي أنه لتحقيق أقصى استفادة من هطول الأمطار الأخيرة، خصوصا بعد عاصفة "جانا" وما حملته من تساقطات مهمة، يمكن تبني استراتيجيات مبتكرة تستند إلى الإدارة المستدامة للموارد المائية وتعزيز الإنتاجية الفلاحية، من خلال "العمل على تطوير البنية التحتية المائية والاستفادة من المياه السطحية، وذلك من خلال توسيع شبكات حصاد مياه الأمطار عبر بناء خزانات وسدود صغيرة في المناطق الفلاحية، لتجميع المياه وضمان استغلالها، خلال فترات الجفاف، والعمل على تحسين أنظمة الصرف الزراعي في المناطق التي تعرضت للفيضانات؛ مما يحد من تضرر المحاصيل، والعمل على تحلية وتخزين المياه الزائدة لاستخدامها في الري التكميلي خلال الصيف. وبالتالي، فاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI) لمراقبة توزيع المياه وإدارتها بذكاء سيُحسن من فعالية الاستخدام ويوجه الموارد نحو الحقول الأكثر احتياجا"، و"تعزيز الإنتاج الزراعي باستخدام الزراعة الذكية والمستدامة، من خلال اعتماد أصناف مقاومة للمناخ، خاصة في زراعة الحبوب والقطاني التي تستفيد من مخزون المياه الجوفية بعد العاصفة، وتحسين طرق الزراعة الحافظة (Conservation Agriculture)، التي تعتمد على تقليل الحرث للحفاظ على رطوبة التربة".
وللاستفادة المثلى من التساقطات المطرية الأخيرة في دعم القطاع الفلاحي، تابع الخبير أنه يُمكن "استثمار الأمطار لدعم الغطاء النباتي وتحسين المراعي، من خلال المساهمة في إعادة تشجير الأراضي الجافة بالأشجار والنباتات المقاومة للجفاف؛ مثل الخروب والأركان، للاستفادة من المياه المخزنة في التربة، والعمل على دعم المراعي الطبيعية، من خلال نشر بذور الأعلاف والنباتات الرعوية في المناطق التي استفادت من الأمطار، والعمل على إطلاق برامج لإعادة تأهيل الغابات التي تأثرت بالتغيرات المناخية؛ مما يُسهم في الحفاظ على التوازن البيئي"، و"إنشاء "بنك المياه الفلاحية" واستراتيجية استدامة الموارد، وذلك من خلال إحداث "بنك مياه" لتخزين المياه الفائضة خلال فترات الأمطار القوية، واستخدامها لاحقا، والعمل على تعزيز وتطوير التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية لتطوير حلول مبتكرة لتحلية المياه الجوفية وإعادة تدوير المياه، والاعتماد على الطاقة المتجددة لضخ وتوزيع المياه؛ مما يُخفض التكاليف ويُحافظ على البيئة"، و"تفعيل التأمين الفلاحي ضد المخاطر المناخية، من خلال توسيع نطاق التأمين الفلاحي ليشمل التعويض عن الخسائر الناجمة عن الفيضانات والرياح القوية، والعمل على إدماج أدوات مالية جديدة؛ مثل "السندات المناخية"، لتمويل مشاريع الحماية من مخاطر التقلبات المناخية"، فضلا عن "تشجيع الابتكار والتكنولوجيا في الزراعة، من خلال تقديم الدعم والتدريب للفلاحين لاعتماد تقنيات زراعية حديثة تُحسّن من كفاءة استخدام المياه وتزيد من الإنتاجية، وتشجيع الشركات الناشئة على تطوير حلول ابتكارية في المجال الفلاحي بواسطة الذكاء الاصطناعي".