رحيل المفكر التونسي هشام جعيط..آخر كلماته على موقع " تيل كيل عربي"

المؤرخ هشام جعيط داخل منزله بتونس / خاص بالموقع
غسان الكشوري

رحل المفكر التونسي هشام جعيط، اليوم الثلاثاء 1يونيو، عن سن 86 سنة  مخلفا وراءه عدد كبيرا من الكتب، و العديد من الاجتهادات التي أثارت جدلا واسعا.  الزميل غسان الكشوري كان قد أجرى معه حوارا مطولا لفائدة " تيل كيل عربي"  في جزئين . نعيد نشره لما فيه من فائدة. 

هشام جعيط، من الذين زلزلت أطروحاتهم الفكر العربي والإسلامي، سواء في كتابه: "الكوفة"، "الفتنة: جدلية الدين والسياسة، "الشخصية العربية الإسلامية"، وثلاثيته حول "السيرة النبوية".

"تيل كيل عربي" التقى جعيط في مكتبه، ببيته بأحد الأحياء الهادئة بالعاصمة التونسية، غارقا وسط كتبه لا يمنعه من ذلك سنه الذي بلغ الثالثة والثمانين.

جعيط رفض من البداية الحديث عن الثورة التونسية، قال إنه "تعب من الحديث حولها". لكنه بالمقابل ينخرط طوعا في تفكيك بنية الأديان، ويحلل علاقة النبي بالوحي، والصلة بين النص الديني والعنف، وبين الإسلام السياسي والتخلف.

أنت مؤرخ ودارس للحضارات وتطورها، في نظرك ما حاجة الشعوب إلى الدين؟

على مر العصور، لعب الدين أهم دور في الحياة الإنسانية، بدءا من العصر البدائي إلى الحاضر. إذ لعب دورا في إعطائهم الأخلاقيات الضرورية، لكي يعيشوا بصفة معقولة. كما منحهم نظرة إلى العالم، محاولا تفسير وجودهم.

الدين أتاح للشعوب عبر التاريخ، الفرصة لكي يتجاوزا الخوف من الموت. إذ أن كل الأديان تتمحور حول فكرة الموت وما بعده، وحول الأخلاق والتعايش الاجتماعي، وكلها تحاول الإجابة عن أسئلة إنسانية. لذا في نظري لعبت الأديان أدوارا مختلفة، حسب الرقاع الحضارية؛ فمثلا الشرق الأدنى والأوسط، طبع بالتوحيدية وبالأخلاقية.

الدين الهندوسي لعب دوار أساسيا في بناء الهوية الهندية والمجتمع الهندي، وطرح إشكالية ما بعد الموت، حول فكرة السمسرة (samsara)، أي الولادة المتكررة، التي تتعلق بتناسخ الأرواح، لكنها أعطت أخلاقية صارمة جدا وبنت مجتمعا شامخا في آسيا الشرقية في الصين واليابان. كما خرجت البوذية من نفس المعين، من منطقة الهند.

هذه الأديان الكبرى تقريبا تواجدت في نفس الفترة؛ ما بين 500 سنة قبل المسيح و500 سنة بعده. وبالتالي لعب الدين دورا تحضيريا (من الحضارة) من جهة أخرى، أي قام بتحضير البشرية التي كانت بربرية إلى حد كبير، وأعطاها نسقا للحياة.

أما بخصوص المعتقدات التي هي طقوس ونظام حياة، فأهميتها لا تقل عن أهمية الاقتصاد وتدبير المعاش اليومي كما نظّر لذلك ماركس.

هذا في حضارات غابرة، ماذا عن التاريخ الحديث والراهن؟

في العصر الحديث ابتداء من القرن السادس عشر تقريبا، انقسمت المسيحية في الغرب إلى أقسام متعددة، داخل نسق معين، ووقع تطوير داخل نفس الدين. ثم أتى القرن 18 وهو ما سمي بعصر التنوير، حيث وقع شيئا فشيئا الابتعاد عن الدين، وخرج منه قسم كبير ما بين القرنين 18 و20، وصولا للقرن 21 وما تلاه، وذلك في أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفياتي (روسيا).

لم يبتعد كل المجتمع عن الدين، لكن قسما وافرا منه اتبع أفكار التنوير، وهو ما أدخل البلدان الغربية والصين كذلك، في ما سمي باللائكية (Laïcité). وفي البوذية والإسلام حصل نوع من الاضطراب. لكن الإسلام ظل صامدا، لكونه يعتبر الدين الأخير الذي عرفته البشرية، وهو دين شاب له 15 قرن.

كان الإسلام كامبراطورية في القرون الأولى (من القرن 9 إلى 12) يشهد فترة ثقافة وحضارة قوية، وفكرا لادينيا أو لنقل مبتعدا عن الدين عند الفلاسفة مثلا. ثم أخذ المسلمون يدخلون في حيوية فكرية، واشتد الجدل في مسائل كلامية؛ حول الدين واللادين. ثم ابتداء من القرن 15 ولأسباب متعددة، حلت فترة الانحطاط العلمي، ووقع انحدار في الحضارة والثقافة الإسلامية.

من جهة أخرى، عندما جاء الاستعمار في أواخر القرن 19، أثرت الثقافة الأوروبية؛ "المتباعدة نوعا ما عن التدين" على العالم الإسلامي. ودخلت أفكار جديدة كالإصلاح والتجديد الديني، وأعطي الدين صبغة تجديدية. وكان هذا الأمر حديثا في تلك الفترة، مقارنة مع حضارة الغرب التي دأبت على إصلاح الفكر الديني.

كيف تأثر الإسلام بالإصلاح الديني؟

حاول المسلمون تجديد الفكر الديني، لكن في الواقع، من ناحية نظرية، لم يحصل أي شيء من التجديد. وذلك لأن الفكر الديني في نظري صلب ومن الصعب تجديده. ما حصل هو مجرد نوع من الابتعاد عن الممارسة الدينية؛ مثلا في فترة أتاتورك في تركيا، وفي تونس مع بورقيبة، ومع طه حسين بمصر وغيره.

على مستوى موازين القوى بعد تلك الفترة، حصل فيها نوع من الرجوع نحو الدين. لكن حاصل الأمر أنه تراجع سياسي وحربي (اذا جاز القول)، أكثر منه فكري. إذ اعتبر الإسلام كذرع يحمي من الهيمنة الغربية، وبالتالي أضحت المسألة جيوسياسية أكثر منها دينية.

هذا من ناحية التأثيرات الخارجية، لكن ماذا عن إشكالية التجديد الديني من الداخل، هل يكمن المشكل في بنية النص أو في تأويله ؟

إذا كان نص ديني يحتوي على تشريعات فمن الصعب تحويله. يمكن تأويله في بعض الأمور، لكن من الصعب تحويله، لا سيما إذا اعتبر النص ذو طبيعة إلهية، وإذا كان متغلغلا وله ركيزة في المجتمع منذ قرون.

الذي يمكن أن يحصل حسب رأيي، هو إعادة تأويل النص القرآني بخصوص التشريعات والطقوس الدينية، ما ينحصر في الممارسة (La pratique)، وهذه الأخيرة حاضرة وتتوغل في المجتمع.

لذلك العامل الخارجي (الغربي بالتحديد) بنمط حياته وبتأثيرات فكرية، ساهم في الابتعاد عن الممارسة الدينية شيئا فشيئا، كطقوس الصيام، الصلاة، لا سيما فترة ما بعد الاستقلال، التي شهدت فراغا في المساجد.

نتيجة لذلك، نحن الآن في فترة رجوع إلى الأصول، باعتبار الدين هو هوية أكثر منه فكرا ميتافيزيقيا. وبالتالي فالإسلام اليوم هو رد فعل، وليس مجالا للتفكير العميق. غلب عليه المجال السياسي والعسكري، بعد ما سمي بفترة الصحوة، فأدى في أحايين كثيرة إلى أفعال شنيعة باسم الإسلام.

بحسب كتابك الشهير حول الفتنة، فإن الاحتكام للنص التشريعي (القرآن)، سبّب فتنة كبرى ومنعطفا في مسار التاريخ الإسلامي، مخلفا حروبا وانقسامات (فترة حكم الخلفاء الأوائل). هل يمكن اليوم أن نقول إن "الفتنة" وسبب الصراعات، لا تزال بسبب الاحتكام إلى نفس النص ؟

لا أعتقد أن الفتنة الأولى التي حدثت في فجر الإسلام هي نفسها التي تحدث الآن. الفتنة الأولى لها مبررات، حيث خرج العرب من جزيرتهم ودخلوا في دوامة تكوين قوة عسكرية كبيرة باسم الدين والجهاد.. ونجحوا في ذلك وكونوا امبراطورية تحولت إلى حضارة في ما بعد.

في الفتنة الأولى، صحيح أنه تم الرجوع إلى النص التشريعي، أي القرآن، لكن باعتباره النص الوحيد الموجود والمعتمد في تلك الفترة. إضافة لذلك، لم يكن الحديث النبوي ساعتها معتمدا (كما الآن)، بل كانت سنة الرسول وما كان يفعله أكثر حضورا. المسألة كانت متشعبة، تمتزج فيها نزعة السياسي بالديني بالقبلي.

حينها، كان لابد للخليفة أن يتبع تعاليم القرآن بصرامة. ونشب الصراع حول كيفية تدبير الخليفة لأمور الحكم: هل على منوال الخليفتين الأولين أم لا؟ وبالتالي حدثت نزاعات واحتجاجات على الخليفة (عثمان)، لأنه انتهج منهجا أسريا، ووقعت ثورة أدت إلى انقسامات.

كان ذلك داخل نسق سياق تاريخي، عرفته حينها فترة الفتوحات مع بداية استقرار القبائل، وتزامنا مع فكرة أسلمة القبائل، وكذلك مع فترة استحواذ قريش على السلطة.. واستمر الوضع إلى أن صار جهاز الحكم أسريا (بعد خلافة علي).

مشاكل الحكم هاته، أرى أنها من حتميات وضروريات التاريخ؛ لأن امبراطورية كالإسلام، تكوّنت في شعب لم يتعود على توسع سلطته وقوته خارج جغرافيته (قبائل الجزيرة العربية). هذه حتمية تاريخية بأن تتكون أسر حاكمة وتشهد ثورة.

كل هذا من سنن التاريخ، كالروماني والساساني والفارسي.. فكان من غير الممكن الإبقاء على شكل الخلافة التي كانت قريبة من الشعب في الخلافتين الأولتين. في روما، كوّنت الجمهورية ما يسمى الامبراطورية الرومانية، لكنها لم تعد قادرة على إدارتها بعد توسع الحكم، فتمت إزاحة الجمهورية.

وماذا عن "فتنة" اليوم ؟

أرى أن العالم أصبح اليوم فيه متقاربا، يتداخل العالمي كشبكة في قرية كونية. وفي العالم الإسلامي تكوّن جيل جديد منذ أربعة عقود، استوعب أن المسلمين شهدوا مهانة منذ القرن 19، بفعل الاستعمار، والهيمنة والاسبتداد وتحقير الشعوب، أي الحط من الكرامة. خرج الاستعمار وظلت تدخلات من القوى الكبرى لاسيما الغربية، تطال شؤون الدول الإسلامية، معتبرة دولها بدون قوى حضارية أو عسكرية.

أمام هذه الأوضاع، ورغم وجود وتنامي الفكر الإصلاحي والتنويري، الذي لم يعط أية نتيجة في المجتمعات العربية، وأمام قوة هذه الدول المهيمنة، وجدت الدول العربية أنفسها مجبرة على التفاعل (التعاون) معها. ووجدت الشعوب نفسها، بالمقابل، حاملة السلاح و"الإرهاب" في بعض الحالات، بلغ مداه إلى ما عرف بالقتال باسم الجهاد.

إذن الفكر المتطرف انتصر على الفكر التنويري ؟

العناصر الإرهابية ليست عناصر مثقفة، لكنها رجعت إلى بعض النصوص المؤسسة واعتمدت على الفتن الأولى والصراعات التاريخية في الإسلام. الحركات الإسلامية الراديكالية هي متأتية من الوضع الحالي والآني، وبالطبع وجدوا ما يبرر أفعالهم. لكن السبب القوي الذي أراه هو أزمة نفسية أذكتها النصوص، بحيث يعودون إلى مفاهيم قابلة للتأويل، كالكفر والتكفير والجهاد..

ألم تكن البدايات الأولى تنهل من نفس المعين، لا سيما في فترة الفتوحات ؟

النبي مثلا كان جهاده مختلفا عن الآن وكذلك عمن جاء بعده؛ فمن ورثوه في الحكم في فترة الفتوحات، استعملوا مفهوم الجهاد لاكتساح العالم، مرتكزين على الإسلام كوسيلة جامعة وموحِّدة. أي أن الصحابة الأوائل أبو بكر وعمر اعتبروا أن الإسلام لن ينغرس في العرب ماداموا مشتتين في الجزيرة العربية ومعتمدين على عاداتهم القديمة (كالغزو مثلا)، ومادام أيضا بعضهم جياع. لذا استغل الرجلان بؤر وأمصار معروفة، لإعطاء العرب فرصة لكي يخرجوا من عزلتهم.

اليوم من يتكلمون عن الجهاد، فإنهم نهلوا بعض المفاهيم ولم ينهلوا من التاريخ، فقاموا بتوظيفها بطريقتهم. على سبيل المثال؛ داعش تطارد اليزيديين وتريدهم أن يسلموا. اليزيديون موجودون قدم التاريخ، وقد تركهم الخلفاء أنفسهم، يعيشون دون المساس بهم. وكذلك النصارى والمسيحيون، نفس الأمر.

تعتمد في كتاباتك على نشأة المدينة العربية الإسلامية، الكوفة، تاريخية مكة والمدينة.. لماذا تركز على البداية الأولى لتشكل المدن؟

أولا، لأن كل الأصول كانت هناك. ومن ناحية تاريخية، المسلمون والعرب لا يعرفون معنى التاريخ ولم يأخذوه بعين الاعتبار. ربما لأن كل العلوم لم تدخل في ثقافتنا، كالعلوم الإنسانية، أو لأننا لا نمتاز بعلماء سوسيولوجيين وأنثروبولوجيين وجغرافيين بارزين.

التاريخ في حد ذاته له قيمة، بحيث يخول لنا فهم الحاضر من خلال فهم الماضي. كما أن هذه الأصول هي جذور نشأتنا ولا بد من تفكيكها، على غرار ما قام به الغربيون عندما درسوا، عن كثب، الحضارة اليونانية والرومانية وحتى الإسلامية.

نحن نتبجح بأن لنا حضارة كبيرة في الماضي، لكن بصفة عامة هي غامضة ومقامة على الانجازات الأدبية والفكرية. وبالتالي هل نعرف أصول الحضارة وكيف كانت بداياتها!

ما الذي استنتجته، كمؤرخ ومفكر، بخصوص موقع الإسلام في المسار التاريخي للأديان ؟

عندما شرعت في دراسة الإسلام القديم كنت متعجبا؛ لأن الدين كان مسيطرا علينا أثناء دراستنا للفكر، وليس لفهم واقع الماضي. وبالتالي كانت دراساتي وكتبي محاولة لفهم نشأة الإسلام بصفة معرفية صرفة. وكمسلم غلبت على قراءاتي بادء الأمر نزعة القداسة، (سيدنا عمر وسيدنا كذا..).

لكن عندما توسعت في القراءة والمعرفة، لا سيما المراجع الإسلامية نفسها؛ كالطبري (تاريخ الطبري)، وكذلك كتاب طه حسين عن الفتنة الكبرى، لكونه يحمل نوعا من الفكر التاريخي، أصبحت دراساتي للتاريخ محاولة لنزع القداسة.

إضافة لذلك، تأثرنا بما كتبه المستشرقون بدراستهم الدين ونشأة الكلام. رغم أنه، من ناحية الترابط القوي بين التاريخ السياسي والاجتماعي مع ما هو ديني، لا أعتبر دراساتهم دائما دقيقة، باستثناء البعض منها.

المستشرق "تور اندري" مثلا، الذي استفدت منه، درس أصول الإسلام من المسيحية ، ويعرف القرآن والسريانية جيدا، وهو من اعتبر أن تأثيرات المسيحية في أولى الآيات القرآنية كانت تحمل تشابها، لا سيما في ما يخص الأمور الاسكاتولوجية (أي الآخرة وما بعد الموت).

(مقاطعا).. وجود تشابه بين القرآن والمسيحية إلى هذه الدرجة، ألا يضع شخصية النبي في المحك، أي في مسألة حقيقة تلقيه الوحي، بحسب دراستك في ثلاثية "السيرة النبوية" ؟

دراستي عن النبي محمد كانت في إطار التاريخ الواقعي، أي ماذا حصل؟ باعتباره إنسانا. وأنا كمؤرخ لا أنكر الوحي (La révélation) في الإسلام، على غرار باقي الديانات والمسيحية والهندوسية. فالفيدا (كتاب الهندوس) مثلا، يعتبر عند المؤرخين كوحي، وهو يجعل الهندوسية دينا مبنيا على الوحي.

من جهة أخرى، كتبت أن النبي كان مبلغا للوحي فقط، وذلك بناء على تطوره الداخلي كإنسان. هذا ليس تناقضا بين أن يكون الإسلام يحتوي على بعض الأمور المسيحية، وبين أن يكون موحى إليه. فبحسب القرآن، كمرجع تاريخي، الرسول مبلغ للوحي فقط. أما حسب التاريخ فمحمد (ص) عاش في فترة وبيئة، ويهم المؤرخ أن يفهم ظروف وسياق نشأته. دراستي للأمرين ليس بهما أي تناقض.

أنا أومن بالقرآن ككتاب موحي به، مثله مثل كتاب الفيدا عند الهندوس، والانجيل عند المسيحيين وغيره من الكتب المنزلة، بغض النظر من هو الإله، فكلها من نفس النمط.

في الجزء الأول من الثلاثية (أي كتاب "في السيرة النبوية")، حاولت فهم الوحي من خلال القرآن نفسه، وفي الجزأين الآخرين، درست شخصية النبي من خلال بيئته وواقعه.

أنا أومن بالقرآن ككتاب موحي به، مثله مثل كتاب الفيدا عند الهندوس، والانجيل عند المسيحيين وغيره من الكتب المنزلة، بغض النظر من هو الإله، فكلها من نفس النمط. لكن مقابل ذلك، لابد من التأكيد أنه من ناحية الواقع، المؤرخ يتدخل ويحاول أن يفسر.

من حسن حظنا لدراسة شخصية الرسول محمد (ص) أن لنا شواهد تاريخية مهمة أعطت تفاسير متعددة وأثبتت وقائع حقيقية. وهذا لم يكن موجودا في اليهودية القديمة. والمسيحية ظلت غامضة، بل وحتى الفيدا تحتوي على مئات آلاف الصفحات، أكثر مما عند الاسلام في ما يتعلق بالكلام الإلهي.

لكن المسلمين فيما بعد، نموا رصيدهم الديني، بتدوين الحديث والسنة وبعلم الكلام والفقه..، فتكوّن هيكل كبير، ولم يعد القرآن وحده مرجعهم، وهو أمر طبيعي.

المؤرخ وسط مكتبته، وخلفه جوائزه العلمية

ألا يشكل هذا الكم الهائل من الكتب ومن التراث مأزقا للدين أو عائقا لدخول عصر الحداثة ؟

هذا لا يشكل مشكلا، فكل الأديان تطورت وأخذت في النمو. ففي البوذية كم حدث من اجتماع ديني لما يسمى بـ (Conciles)، لتدقيق التدين وتحديد الاختلافات داخلها، والتي أدت إلى انقسامات؟ ماذا حصل كتطور في الهندوسية التي تحولت من أصلها "ريغ فيدا" القديمة إلى أن صارت هندوسية؟ الدين ينمو ويكبر وتقع داخله انشقاقات وتداخلات وهذه قاعدة عامة.

أوروبا ابتعدت عن الدين، بينما الإسلام والهندوسية صعب على أبنائهما الدخول إلى الحداثة والابتعاد عن أصول الدين وجذورهم. في أوروبا حصل صراع بين الكنيسة، والإلحاد والتنوير واللائكية (العلمانية).

الغلطة الكبرى التي نعتقد، وربما بسبب ما زرعه المستشرقون والاستعماريون، هي أن الخروج من الإسلام يدخل إلى الحداثة والتطور مباشرة.

صادف ذلك أن أوروبا كونت هذه الحداثة لأنها آخر حضارة أتت في الوجود التاريخي. وبما أن العالم صار متقاربا جغرافيا، بخلاف الماضي، فأحدث لنا (أي العرب والمسلمين) ذلك مشكلا، بحيث وجدنا أنفسنا متأخرين بالدخول إلى هذه الحداثة، لأنهم دخلوا قبلنا في القرن 17 بالعلم، وفي القرن 18 بالثورة الصناعية، ونحن كنا في تلك الفترة في سبات عميق.. فأتينا إليها مؤخرا.

لكن لابد من التنويه أن الغلطة الكبرى التي نعتقد، وربما بسبب ما زرعه المستشرقون والاستعماريون، هي أن الخروج من الإسلام يدخل إلى الحداثة والتطور مباشرة. الحداثة في واقعها قبل كل حساب، هي مقامة على النظام الاقتصادي والاجتماعي والأنظمة السياسية الجديدة، وكذلك على أنماط الحياة اليومية بما فيها الإبداعات الفنية الحديثة والاختراعات.. وهي الاقتصاد والدولة الحديثة بمرتكزاتها البيروقراطية والديمقراطية. شخصيا لا أرى علاقة بين الابتعاد عن الدين تماما وبين الدخول إلى الحداثة.

ومن ناحية تطبيقية، لسنا الآن في فترة قطيعة مع الدين، لأن مجتمعاتنا هشة وضعيفة. لكن أنا من الناس الذين يصرون أنه ليس على الدولة أن تكون دينية بحثة، وليس على المجتمع الاقتصادي والمدني أن يتبع الأنماط الدينية، كما أدافع عن حرية الضمير والمعتقد والتدين.

هل للإسلام السياسي دور في هذه القطيعة وفي النهوض، وكيف تقيم الأوضاع حاليا ؟

في تونس نحن نجحنا في أن تكون الدولة مدنية، رغم أن الاسلام السياسي عارض هذا، لكن غالبا الكل اختار التوجه المدني.

من جهة أخرى، لا يزال الآخر (الغرب) هو الأقوى؛ يهيمن في ظل غياب قوة عربية في الساحة الدولية. نحن نتصارع في ما بيننا ونحن ضعفاء.

لهذا، ووبالرغم من وجود مفكرين عرب على قلتهم، فهناك من يحاول أن يرد بغباوة بقتل الآخر، وهذا راجع لكون العالم الإسلامي اليوم، بما فيه العقل الإسلامي، في حالة ضعف. والسبب راجع لكون الفكر العربي ليس عميقا، وبعضه متأثر بما يجري في السياق الخارجي، بتأثير الميديا وتقليد الذهنيات، وفي ظل غياب سيادة للعلم.

لذا فالتمسك بالفكر في الساحة العربية، من أجل النهوض؛ تعد إمكانية غير ناجعة، لأن فكر المجموعات هو الاخر فكر ضعيف. فعندنا تقريبا 10 أو 20 مفكرا، وهذا عدد قليل.