نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. المدرسة الأيونية: من هنا بدأت الفلسفة

هادي معزوز

عرفت الفلسفة لحظة إشراقها سطوع حكماء إغريق اهتموا بسؤال الأصل والوجود، محاولين بذلك إخراجه من جبة التصور الميثولوجي إلى منطق إرجاع كل شيء لعناصر الطبيعة، ولا شك أن أول حكيم أدلى بدلوه في هذا الباب هو طاليس الملطي الذي تمكن من تأسيس مدرسة تحمل اسم المدرسة الأيونية، علما ان مفهوم المدرسة الفلسفية يختلف تمام الاختلاف عن تصورنا المعاصر.

ولقد تأتى لهذه المدرسة أن تبصم على حضور قوي في سؤال البحث عن أصل الوجود بفضل حضور أعلام كبار من قبيل أنكسماندرس وأنكسمانس وأرخيلاوس وهبون.. في المقابل على ماذا كانت ترتكز هذه المدرسة وكيف تمكنت من إنشاء طريقة جديدة في التفكير؟

انبرت المدرسة الأيونية باهتمامها بمفهوم المبدأ ــ archê باللغة الإغريقية القديمة ــ الذي كان سببا حسب اعتقادهم في أصل ومبدأ الكون، خاصة وأنهم كانوا يؤمنون أن ما يوجد هو ما يدرك عن طريق الحواس، الأمر الذي سيجعل المبدأ الأول ماديا وليس مجردا.

وهكذا فقد أضحى شغلهم الشاغل يكمن في وضع الأصبع على السبب الرئيسي المفسر لأصل العالم، حيث اتفقوا حول منطلق يجمعهم ألا وهو إرجاع الكثرة والاختلاف في الكون إلى سبب أول، أو وحدة أولى وقد نتجت عنها باقي العناصر.

وفي هذا الصدد أرجع طاليس كل شيء للماء باعتباره العنصر الأول الذي نجمت عنه أشياء العالم المتنوعة، بل إن الأرض بدورها مجرد قرص يطفو فوق الماء.

علما أن هذه القضية لم تكن من بنات أفكار طاليس، حيث وردت لدى البابليين كما المصريين القدامى الذين كانوا يعتقدون أن العالم تكوَّن من مادة أولية وهي الماء، الأمر الذي أكده هوميروس بعدهما، كون أن أصل العالم يعود إلى أوقيانوس وتيتيس إلهة البحر عند اليونان.

هذا ولا شك أن تاريخ الفكر القديم لم يسجل كثيرا على طاليس خاصة وأنه لم يترك إرثا مكتوبا إلا أن له من الرمزية ما ليس لغيره وذلك باعتباره أول من أرجع الكثرة في العالم إلى وحدة.

وفي مقابل ما سبق ذكره، فإن الحكيم أنكسماندرس اعتبر بدوره قطبا من أقطاب المدرسة الأيونية، بل إنه هو الذي يعود إليه نحث مفهوم المبدأ الذي سيتطور فيما بعد إلى مفهوم العلة أو السبب مؤثرا بذلك في معارف شتى كالفيزياء والفلك والدين.

أرجع أنكسماندرس العالم إلى قوة غير مادية وهي تسمى بالأبيرون l’apeïron وتتميز بكونها قوة غير محدودة ، أما حسب التصور الإغريقي القديم فإن هذه القوة هي الكاووس الأصلي أو العدم الذي خرجت منه باقي الموجودات، مما نلاحظ هذه العلاقة بين ما جاء على لسان أنكسماندرس وما ورد في سفر التكوين او باقي الكتب المقدسة.

يتميز الأبيرون بكونه عنوانا لهذا الكون اللامحدود الذي ما إن ينتهي حتى يبدأ من جديد وبشكل مشابه ومطابق لما كان عليه الأمر سابقا، أي أن الأبيرون ليست له بداية كما أنه لن ينتهي باعتباره أزليا خالدا. أما الموجودات التي تحفنا فإنها تتولد من هذه القوة ثم تعود إليها كي تولد من جديد وهكذا دواليك إلى ما لانهاية.

إذا كان العالم الذي نعيش فيه محدودا فلأن أصله أي الأبيرون غير محدود، يفسر أنكسماندرس هذا الشأن باعتبار أن عالمنا منتوج خالص لمبدأ التناقض، فإذا أراد أن يتصف بصفة الوجود عليه ان يكون محدودا كي يعود إلى اللامحدود أي الأصل وذلك من أجل الولادة من جديد، سيحيلنا هذا الأمر على قضية توازن المتناقضات، أي تولد اللامحدد من المحدد، وهو الذي يتجسد بشكل كبير في الطبيعة التي تتكون من أربع قوى غير محددة وهي الساخن والبارد فالجاف ثم الرطب، التي تنجم عنها العناصر الأربعة المحددة على التوالي وهي التراب والماء فالنار ثم الهواء.

وللإشارة فإن تصور أنكسماندرس في الفلسفة سيؤدي فيما بعد إلى ظهور الفيزياء القديمة التي كانت تعنى بمسائل الطبيعة خاصة وأن عبارة "فيزيقا" الإغريقية تعني الطبيعة بلغة اليوم.

وبخلاف طاليس وأنكسماندرس، أرجع الحكيم أنكسمانس العالم إلى أصل آخر وهو الهواء، وذلك لاتصافه بجملة من الخصائص التي تتوفر فيه لوحده، إذ الهواء يتميز بكونه إلهيا وخالدا ولطيفا.

وحسب أنكسمانس فإن الهواء بالنسبة للعالم، كالنَفَس أو الروح التي تُنفخ فينا من أجل الاستمرار في الحياة، بل إن مجموع الحقائق ليست في الأصل سوى انبعاث لهذا المبدأ وقد تأرجح بين قوتين وهما القلة والكثافة باعتبارهما مسؤولتان عن التعدد الذي يسكن عالمنا، فالهواء مثلا عندما يخف يمنحنا النار، وعندما يتكاثف يعطينا الرياح ثم الماء فالتراب وأخيرا الحجر.

عندما نعود إلى المدرسة الأيونية نجدها مدرسة مؤثرة في عديد مناحي التفكير الإنساني الذي سيأتي بعدها خاصة في الفيزياء والفلسفة والفلك والتصور الديني الذي لم يخرج بدوره عن إرجاع العالم إما إلى قوة مجردة أو إلى عناصر الطبيعة على غرار التراب والنار.