بنعيسى الجراري ل"تيل كيل": "خدام الدولة" يؤججون الغضب الشعبي..وتجسيد دور البصري أفزعني

عبد الرحيم سموكني

لا يغرنك خجله وتواضعه الكبير، فخلف ابتسامته الرقيقة يختبئ وحش كاسر، تدرب على الركح كثيرا، قبل أن ينتقل إلى التلفزيون ثم السينما. يرى بنعيسى الجراري أن تواضعه وخجله وضعاه أكثر من مرة في مواقف محرجة مع الناس، وأن البعض منهم استغل تواضعه وشعبيته لاستغلاله فنيا وماديا.

خريج معهد التمثيل والتنشيط الثقافي، رفقة زمرة من نجوم اليوم كمحمد خيي ورشيد الوالي وآخرين. لا يحب الأضواء كثيرا، لكنه إن أخد الكلمة فلا أحد يمكن أن يوقفه.  لباقته وأدبه الظاهر للعيان، توازيه جرأة واندفاع للتعبير عن مواقفه السياسية وأرائه من قضايا المجتمع والناس.

في هذه الدردشة الرمضانية يتحدث بنعيسى الجراري عن كل شيء.. عن التمثيل والدراما والمقاطعة والسياسة والقدرة الشرائية وعن إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق والرجل القوي الذي حكم المغرب بقبضة من نار وحديد في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.

 

لماذا يتقاسم الفنانون والمشاهدون وجهة نظر واحدة حول جودة الإنتاجات الرمضانية، والتي تصب في مجرى أن الرداءة ستكون سيدة الموقف من جديد؟

لأن وضعنا يشبه من يوجه لكمات للماء أملا أن يصبح سطحه صلبا، هذا ما ينطبق على الإنتاجات الرمضانية كل عام، لأن الإشكال بنيوي في الأصل، لا يعقل أن تقوم بإنجاز عمل درامي أو كوميدي في فترة لا تتعدى الشهرين، في حين أن الكتابة وحدها تتطلب وقتا أطول من فترة التصوير بأكملها.
على الأجهزة المسؤولة أن تغير استراتجيتها في هذا الباب، فالقنوات المغربية تعمل بعقلية استعجالية، ولا تتوفر العملية الإنتاجية على مخطط قبلي ولا تصور مسطر لمراحل الكتابة أولا، ثم بعدها مراحل التصوير.
لكن الواقع الذي يتكرر كل عام، ورغم الانتقاد والامتعاض، نجد أنفسنا في دوامته الفارغة، هو أنه لا يعقل بتاتا أن تصور عملا تلفزيا من 30 حلقة في ظرف 6 أسابيع، إنه نوع من الاستهزاء بالعقول، عقول الفنانين، الذين يجدون أنفسهم مجبرين على الاشتغال حتى لا يسقطوا في فخ البطالة، وعقول المشاهدين الذين ألف كثير منهم أيضا أن يوجه سهام نقده لكل ما هو مغربي. إن قواعد السيتكوم كما هو متعارف عليها عالميا، تتطلب مدة 15 يوما إلى 20 يوما لتصوير حلقة واحدة فقط، وهي مدة موزعة ما بين الكتابة وإعادة الكتابة ثم التصوير. فإذا قارنا هنا بين مدد الإنجاز عندنا فحينها سنفهم من أين تأتينا تلك الرداءة و ضعف المضمون.

 

إذن أنت تتوقع أن نعيد سيناريو الإحباط والسخط والتذمر من الأعمال الرمضانية؟

أكيد، بل أتوقع أن تكون موجة السخط أعمق وأكبر من السنوات الماضية، وذلك لسبب بسيط، هو أن المناخ العام وسيكولوجية المواطن المغربي هذا العام مطبوعة بحملة المقاطعة، وبالتالي فإن نفسية المشاهد أو المتفرج لديها تحفيز مسبق لرفض الأعمال التي تنتجها قناتانا العموميتان.
من حق المشاهد أو دافع الضرائب أن يتنقد كما شاء، لكن ما أود التنبيه له هنا، هو أن الممثل من يتحمل جزءا كبيرا من هذا السخط، في حين أن دوره في العملية الإنتاجية يبقى صغيرا وغير ذي أهمية كبيرة، مقارنة مثلا بلجان قراءة السيناريوهات أو كتاب السيناريو أو منفذي الإنتاج.

فهل السيتكوم كجنس فني لم يلاءمنا في المغرب؟

لا بالعكس إنه جنس درامي وكوميدي رائع، صحيح أنه جنس جديد على القنوات وعلى شركات الإنتاج، ربما الخطأ الذي ارتكب في المغرب، هو أنه جرى اعتماد السيتكوم دون اعتماد معاييره المعروفة عالميا.
في أمريكا وهي بلد السيتكوم، يجري تصوير الحلقات أمام الجمهور، والقهقهات التي تسمع، هي ضحك حقيقي للجمهور، في أمريكا مثلا تكون كتابة السيناريو معهودة لخلية كبيرة، بل ويجري الانفتاح فيها على الجمهور ليبدي رأيه، وكما قلت سابقا، فإن مدة الاشتغال على حلقة واحد يمكن أن تصل إلى شهر. وهو ما نفتقده نحن. إن وتيرة التصوير لدينا تصل إلى إنجاز 5 حلقات في الأسبوع، إن أي ممثل عالمي إن سمع وتيرة الإنتاج هذه سيصاب بالذهول وقد يصفنا نحن بالجنون، لا يمكن أن تصور عملا فنيا ودراميا فيه حبكة درامية ويحترم ذكاء المشاهد بهذه الوتيرة، إنه أمر لن تجده إلا في المغرب.

 

بعد حملة المقاطعة لثلاث منتوجات، بدأنا نرى اليوم دعوات لمقاطعة "موازين" والسمك، بل هناك من يدعو إلى مقاطعة سيتكوم الدرب الذي تشارك فيه هذا العام؟

أولا مسألة المقاطعة هي النقطة التي أفاضت الكأس، وبغض النظر عن المنتجات المقاطعة، ومدى حيويتها للمعيش اليومي للمواطن المغربي، فإن المقاطعة جاءت لتكون صوتا عاليا في وجه الجشع، ولتعلن ان المغربي البسيط "طاب"، وأنهكت قواه سواء المادية أو الجسمانية، إن الأمر يتعدى مقاطعة ماء معدني وحليب، بل هي تعبير جماعي وعفوي عن سخط عام من الأوضاع، التي تبدأ بالصحة والتعليم وتصل إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وبيني وبينك لو جات عليا أنا نقاطعو كلشي ونبقاو ناكلو غير الخبز والماء، وحتى لو رفعوا سعر القمح سنقاطعه أيضا.
فكما قلت سابقا، رمضان هذا العام سيكون ساخنا، لأن "المود" العام جد مستاء من توالي الضربات التي تلقتها القدرة الشرائية.  إن مقاطعة ثلاث منتوجات هي مقاطعة رمزية في الحقيقة، لكن دلالتها كبيرة وعميقة، ومن هنا أود أن أوجه تحية إلى الشعب المغربي ولهذا الجيل، لأنه برهن أن بإمكانه أن يقلب الموازين، وأن يوصل رسالته بشكل حضاري إلى من يهمهم الأمر، والتي مفادها أن الناس سئمت الضرر الذي يلحق بها، ضرر تدني الأجور، وضرر رداءة الخدمات الصحية ورداءة التعليم، وضرب قدرتهم الشرائية، لكل هذه الأسباب جاءت المقاطعة.
ولعلمك أنا مقاطع قديم، حتى قبل هذه الحملة، كنت مقاطعا للمياه المعدنية التي تحتوي على نسب عالية من الصوديوم، كابن حي العكاري أنا مواطن مغربي ومع الشعب ومع طبقاته الفقيرة حتى النخاع، ولست مع أولئك الذين يتربعون على القمة، ومن يتحكمون في جيوب المغاربة ويتحكمون في ثروات البلاد.

 

 

يبدو أنك كبير المقاطعين وتتحدث بحماسة عن هذه الحملة؟

أكيد لأني ابن الشعب ومع الشعب، وما يجب أن نعرفه هو أن دعوات مماثلة للمقاطعة سبق وأطلقت مرارا دون ن يجري تبنيها بهذا الشكل، لهذا فأنا سعيد وفخور بأن تنجح حملة مقاطعة عفوية خرجت من العالم الافتراضي فأحدثت تغييرا على أرض الواقع.
وكما قلت سابقا، لا يتعلق الأمر بتخفيض درهم أو خفض سعر قارورة ماء معدني أو وقود معين لإحدى شركات المحروقات، إن الأمر أبعد من ذلك بكثير، إن المقاطعة تجسيد لوعي جديد لجيل جديد. إن أكبر محرض على المقاطعة في نظري ليس ارتفاع الأسعار لوحدها، بل الإحساس بالحكرة والإحساس بأن ترواث هذا البلد ليست من حق الجميع، إن عقليات من قبيل "خدام الدولة" هي التي تؤجج الغضب الشعبي، وهي من كانت أول شرارة  أوقدت نيران المقاطعة.
وأنا أتوقع أن يقود نجاح هذه المقاطعة إلى مقاطعات أخرى، خاصة وأن لا يوجد اي قطاع "يحمر الوجه".

لنعد إلى الدراما الرمضانية، تشارك في سيتكوم "الدرب" ووجهت له انتقادات من قبيل أن لغته "زنقاوية"؟

كما قلت جميع الأعمال الرمضانية ستتعرض لانتقادات شرسة، والسبب هو "الميزاج العام" المتسم بالسخط والغضب الزائد عن كل ما هو رسمي.
صحيح أننا ألفنا الامتعاض والتذمر من الإنتاجات الرمضانية، لكن هذا العام ستكون حدتها أشد أكثر من رمضانات السابقة. فالانتقادات ذاتها تعرض لها قبل عامين، سيتكوم "كنزة في الدوار"، في حين أنه عند نهاية رمضان تبين أنه السيتكوم الأكثر مشاهدة في تاريخ التلفزيون بالمغرب.
ثانيا إن مرور خمسة ايام من عمر السيتكوم، ليست مدة كافية للحكم على عمل من 30 حلقة، ثم بما أنني اشتغلت في "الدرب" فأنا مقتنع به إلى حد كبير كعمل كوميدي ذكي، أما فيما يتعلق بلغة الشباب، وحتى ولو كنت معارضا لها، فهي لغة جيل، إنها لغة واسلوب كلام فئة واسعة من الشباب، الذين بينهم أولادي أيضا. إنها لغة أنترنت ولغة فيسبوك، أنا لا أفهمها كثيرا، لكني لست ضدها، ثم إن اللغة تتطور باستمرار ولكل جيل لغته.

لأزيد من عام ونصف، رفضت إجراء حوارات صحافية، ولولا الحظ لشملنا الحظر أيضا، فما السبب؟

قبل قرابة عامين، تعرضت تصريحات أدليت بها لأحد المواقع اإلكترونية إلى تحريف كبير، وهي تصريحات ترتبط أيضا برأيي في إنتاجات رمضان، وأسباب السخط عليها.
فما قلته حينها هو أنني أقبل انتقادا من ذوي الاختصاص، نقاد وكتاب سيناريو ومهنيين عموما، أولئك إن وجهوا الانتقاد سأتقبله بكل صدر رحب، لكن أن يصبح الانتقاد أتيا من كل من هب ودب، فهذا لا يمكن تقبله. لكن الموقع نقل كلامي على الشكل التالي "من ينتقد أعمال رمضان فهو عدمي وعدائي"، ما أثار حفيظتي بشكل كبير، وقررت بعدها ألا أقبل إجراء حوارات مع الصحافة.

 

اخترت ممثل السنة بعد دورك المميز في فيلم هشام العسري "جوع كلب"، الذي لعبت فيه دور إدريس البصري؟ ما الذي يعنيه لك أن تكون أول ممثل يجسد دور البصري؟

أنا من مواليد 1965 في حي العكاري بالرباط، وهذا يعني أني من جيل السبعينات، أو جيل ما سمي بسنوات الجمر والرصاص، وهي حقبة مهمة في تاريخ المغرب، وبالتالي عايشت البصري.
وأتذكر جيدا أحداث الرباط وتحديدا عندما أضرم الشباب النار في جوطية العكاري سنة 1984، وكانت فرصة لنرى فيها البصري شحما ودما في حينا.
وبما أني مغربي وأعرف خروب بلادي، وأعي جيدا وزن وزير الداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، فأدركت أن تجسيد شخصية مثله سيثقل كاهلي. المثير هو أني في البداية رفضت أن أجسد الدور، بعدما قرأت مقاطع من النص، فاتصلت بالمخرج وأخبرته بأني غير قادر على هذا الدور، ولا أستطيع تجسيد هذه الشخصية. لكن هشام العسري، وهنا تكمن قوة المخرج، أقنعني بالدور، وهكذا كان، تعاملت مع شخصيته كأي شخصية شكسبيرية.

تعاملت مع العسري في "كنزة في الدوار" عبر شخصية "جويعين" ثم في السينما مثلت معه دور البصري، كيف جرى هذا الانتقال الثوري؟

ملاحظة جيدة، وهذه ميزة المخرجين الكبار، ففي المغرب لا وجود لثقافة الكاستينغ، إذ يعمد المخرجون والمنتجون إلى تكريس الكليشيات والصور النمطية المأخوذة عن الممثل، فمثلا من يجيد دور رجل أعمال يبقى طوال مسيرته في هذا الدور، ومن يمثل دوما دور البدوي ينادى عليه دائما ليلعب البدوي، وهكذا، لكن بالنسبة للعسري، فهو مخرج مغامر وجريء إلى درجة كبيرة.
وجرأة "جوع كلبك" هي التي جعلت منه فيلما شبه ممنوع وطنيا.

لماذا تقول إنه شبه ممنوع؟

لأنه كان مبرمجا في المسابقة الرسمية لمهرجان طنجة للفيلم، ثم جرى إخراجه من المسابقة وعرضه بشكل هامشي، بعدها تخلى عنه مهرجان تطوان بالمرة، لكن في المقابل نجد أن الفيلم لاقى نجاحا دوليا كبيرا وإشادة كبيرة في مهرجان تورونتو وبرلين وبوينس إيرس.